«تأبَّط شرّاً» هو اللقب الذى أطلق على الشاعر الجاهلى المتصعلك ثابت بن جابر. وتحكى كتب «تاريخ الأدب» حكايات متعددة، وهى تقص علينا حدوتة هذا اللقب العجيب الذى لُقّب به هذا الشاعر. لعل أبرزها ما قيل من أن أُمه قالت له ذات يوم: كل إخوتك يأتينى بشىء إذا راح إلا أنت، فقال لها: سآتيك الليلة بشىء، ومضى فصاد أفاعى كثيرة من أكبر ما قدر عليه، فلما راح أتى بهن فى جراب متأبطاً له فألقاه بين يديها ففتحته فتساعين فى بيتها فوثبت، وخرجت فقال لها نساء الحى: ماذا أتاك به ثابت؟ فقالت: أتانى بأفاعٍ فى جراب، فقُلن: وكيف حملها؟ قالت: تأبَّطها، قُلن: لقد تأبَّط شرّاً فلزمه تأبّط شرّاً.
الشاعر زمان كان يلعب دور «الإعلامى» فى الحياة المعاصرة، وكانت القبيلة عندما يخرج من بين أفرادها شاعر تقيم الأفراح والليالى الملاح ابتهاجاً بانضمام صوت جديد إلى الأصوات الدعائية والإعلامية المعبّرة عنها. ولعلك تعلم أن الإعلام كثيراً ما يختلط بالدعاية، وكذلك ديدن القريحة العربية وهى تتحدث، فمنذ العصر الجاهلى وهى تستمتع بفكرة خلط الحقائق بالأوهام، والواقع بالخيال، والمعلومات بالأمنيات، كذا كان حال الشعر قديماً ويبدو أن عدوى هذا النمط من الأداء الخطابى انتقل إلى الإعلام. وقد يسىء الشاعر من حيث أراد الإحسان، ويضر من حيث أراد النفع، تماماً مثلما فعل «تأبَّط شرّاً»، حينما طلبت منه أُمه ألا يدخل عليها «بإيده فاضية»، وأن يحمل لها شيئاً كما يفعل إخوته، فإذا به يحمل إليها زمرة من الأفاعى، ويضعها تحت إبطه ويدخل على أُمه، ثم يضعها بين يديها. الأم كما تعلم لها حيثيتها فى الثقافة العربية، فمن عجب أن تطلب أُم من ولدها شيئاً تنتفع به فيحضر لها السم، وبدلاً من أن يعطيها سمكة يهدى إليها حيّة!.
لست أدرى هل المشكلة فى سخف الشاعر، أم فى سذاجة الأم وعدم وعيها بالتركيبة الشخصية لابنها؟ فسيرة «تأبط شراً» تشهد على أنه كان شخصاً مراوغاً مؤذياً، لا يستطيع أن يميز بسهولة بين اللائق وغير اللائق، بين المعقول وغير المعقول، بين الوارد والمستبعد، يشهد على ذلك سلوكياته. ربما كان أفراد قبيلته، وهى قبيلة «بنى فهم»، أكثر وعياً بالتركيبة الشخصية لـ«تأبَّط شرّاً»، فلقبّوه بهذا اللقب، وعياً منهم بأن هذا الشخص لا يأتى من ناحيته خير، لكن وضع أُمه كان مختلفاً.
العيب مش على «تأبط شراً»، العيب على أمه، فهى التى ربته على عينها، وعاشرته سنين طويلة من عمره، بصورة تجعلها أكثر وعياً به. كان من الضرورى أن تتوقع أن «تأبّط شرّاً» لن يحمل لها خيراً، ربما انشغلت بما يكتبه من شعر، ينسج المديح فى قبيلته، ويستخدم حنجرته كبوق يعبر عنها ويغنى المواويل فى إطراء محاسنها، فظنت أن الشعر نظّف عقله، ورقق وجدانه، فطلبت منه ما طلبت، فما كان منه إلا أن ألقى فى حضنها أفعى. والسؤال: عمرك شُفت جهل وغباء أكتر من كده؟!