السيف والصولجان: «الرزية» التى أدت إلى الصراع بين المسلمين
يدل موقف السيدة عائشة، رضى الله عنها، فى مشهد تكليف النبى، صلى الله عليه وسلم، بإمامة المسلمين فى الصلاة خلال فترة مرضه، على أنها كانت تميل أشد الميل إلى أن يكون أبوبكر الصديق خليفة للنبى، صلى الله عليه وسلم، ولو أن قصة الوصية لأبى بكر، التى حكتها كتب السيرة نقلاً عن عائشة وعبد الرحمن بن أبى بكر، دقيقة لبادرا إليها من فورهما. تشهد على ذلك الطريقة التى أدارت بها «عائشة» ذلك الحدث. فقد قالت للنبى عندما أمر أن يؤم أبوبكر الناس فى الصلاة أن يؤخره ويقدم عليه عمر؛ لأن أباها رجل أسيف (رقيق يبكى لآيات الله) فلا يسمع الناس صوته، وعندما أصر النبى، صلى الله عليه وسلم، رغم مراجعتها له عدة مرات، أشارت إلى حفصة أن تكرر هذا الطلب فأمرها النبى بالسكوت وقال لهن: «إنكن صويحبات يوسف»، أى مثل صاحبة يوسف، عليه الصلاة والسلام، وهى «زليخا» التى بدا منها عكس ما تبطن، وأظهرت للنساء اللاتى جمعتهن أنها تريد إكرامهن بالضيافة، وكان قصدها أن ينظرن حسن وجمال يوسف، عليه الصلاة والسلام، فيعذزنها فى حبه.
والنبى، صلى الله عليه وسلم، فهم أن عائشة، رضى الله عنها، أظهرت كراهة أن يؤم أبوبكر المسلمين فى الصلاة مع محبتها لذلك فى نفسها. إذن فقد كانت أم المؤمنين تحب أن يصل الحكم إلى أبيها بعد وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، وهو الأمر الذى يشكك فى تلكُئها فى الاستجابة لطلب النبى، صلى الله عليه وسلم -حين دخل عليه وجع الموت- بإملاء عهده ووصيته بالـ«أمر» من بعده إلى أبيها. وترجح تلك المواقف التى تحكيها كتب السيرة أن هناك أطرافاً محددة كانت ترى أن من الأوجه الاكتفاء بهذه الإشارات التى تدل جميعها على أن النبى كان يريد انتقال الأمر من بعده إلى أبى بكر الصديق وتتحفظ على فكرة أن يتم ذلك من خلال وصية صريحة وموثقة. يظهر ذلك جلياً عندما نستعرض مناقشة موضوع عهد ووصية النبى على المستوى العام، أى فى حضور الجماعة المؤمنة التى تحلقت حول فراش مرض النبى.
فإذا كان طرح موضوع عهد ووصية النبى فى الإطار الخاص المتصل بعائشة، رضى الله عنها، يحمل العديد من الإشارات والدلالات على أن محمداً، صلى الله عليه وسلم، أراد أن يكتب عهداً موثقاً لأبى بكر الصديق، وبالتالى تعنى الوصية هنا تسمية شخص بعينه ليخلف النبى فى حكم المسلمين، فإن الأمر اختلف كل الاختلاف عندما تم طرح الموضوع فى حضور أفراد من الجماعة المؤمنة التى أحاطت بالنبى؛ إذ يفهم من الروايات التى قدمت فى هذا السياق أن الكتاب الذى أراد النبى أن يمليه هو مجموعة من الوصايا التى تجنب المسلمين الوقوع فى فتنة الصراع على الحكم، يؤيد هذا التأويل الواقعة التالية التى وردت فى صحيح البخارى:
«لما حضر -أى دخل فى مرحلة الاحتضار- رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبى: هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده. فقال عمر: إن النبى قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت، فاختصموا؛ منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبى كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قاله عمر، فلما كثر اللغو والاختلاف عند النبى، قال لهم رسول الله: قوموا. قال عبيد الله بن مسعود: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم».
ويحمل هذا النص اتهاماً واضحاً من جانب ابن عباس (القرشى المطلبى) لعمر بن الخطاب (القرشى غير المطلبى)، وأن حيلولته دون النبى وكتابة هذا الكتاب هى التى أدت إلى «الرزية» التى ابتلى بها المسلمون بعد وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، والصراعات المريرة التى انخرطوا فيها فى محاولة كل فريق منهم الاستفراد بالحكم، كما يحمل النص رؤية متناقضة بين فريقين: أحدهما كان يظن أن الوصية والعهد سوف يسميان شخصاً بعينه لحكم المسلمين (وهو فريق أهل البيت)، وثانيهما يرى أن الأمر لن يعدو مجموعة من الوصايا والتوجيهات التى سوف يبذلها النبى للأمة حتى لا يعتورها الضلال من بعده، وفى كتاب الله عنها غناء، وتلك كانت رؤية عمر بن الخطاب ومن تحزب لرأيه من المسلمين.