دراجتي
عندما أخبرت سباستيان بأنني سأسكن معهما ولكنني أخشى بُعد المسافة بين لونا وفيشتا، أجاب بأنه سيضع دراجته الهوائية تحت تصرفي، ثم سألني: هل تستطيع قيادة السيارة؟
كان سباستيان كريما للغاية، إذ عرض علىّ استخدام سيارته أيضا وقتما أشاء، ولم يكتفِ بالعرض، بل اتصل بمكتب شئون الأجانب يسألهم عن مدى صلاحية رخصتي المصرية، وكان جواب المكتب بالإيجاب إذا ما كانت مدة إقامتي في ألمانيا لا تتجاوز الستة أشهر.
شكرت سباستيان حينها، وما أن وصلت إلى لونا حتى أعطاني مفتاح دراجته السوداء الكبيرة، غالية الثمن، فرحت بها كثيرا، خاصة بعد أن جربت السير على الأقدام عائدا من فيشتا إلى لونا.
أجلس الآن في محطة أتوبيس لا يجلس فيها من أحد سواي، تقف أمامي دراجتي في استسلام، أصبحنا الآن أصدقاء، صرنا نلتقي كل يوم تقريبا، نذهب سويا إلى فيشتا عبر طريق زراعي طويل، لم تشتكِ يوما من طول المسافة، ولا من روائح روث الخنازير المنبعثة من حظائرهم الممتدة على طول الطريق، كنت أنا من يتأفف، وكانت تسمعني في صمت. كنت أحدثها في كل شئ: أعرب لها عن مدى سعادتي بصحبتها وسط المزارع والحقول، أخبرها بحبي الشديد للطبيعة، وللأشجار خاصة. كنت أغني وكانت تسمعني، كنت أصيح بأعلى صوت كي أسمع صداه، وكانت تسمعني، كنت أتصبب عرقا وأتقلب أرقا، وأقف وأجلس، وأسرع وأبطئ وكانت معي صامتة ساكنة هادئة!
أجلس في هذا المكان كل يوم، أريح دراجتي قليلا وأستريح، كثيرا ما فكرت في فلاسفة ألمانيا العظام من أمثال "كنت" و"هيجيل" و"نيتشة" وغيرهم، بلاشك فقد أثرت هذه الطبيعة الساحرة وهذا الهدوء الرهيب على أفكارهم. ترى لو ولد "كنت" في مصر هل كان سينجح؟!
بعد فترة استراحة قصيرة كان علينا أن نواصل الطريق، وكان للطبيعة وجهٌ آخر، فبعد أن كانت الشمس مشرقة، والسماء صافية، والعصافير فرحة منتشية، صار الجو ملبد بالغيوم فجأة، بل ولم تطل الفجأة، فصارت الغيوم أمطارا غزيزة، وتعكر صفو السماء فاستحال سوادا قاتما، واختفت العصافير من المشهد.
كانت هذه الفجأة باعثا على حنق شديد، كانت كمن تلقى ضربة قوية على رأسة من شخص عزيز، فجأة، كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير فأردته قتيلا، فجأة، تغير معها حبي الوليد للونا، ورغبتي في استمرار الصداقة مع سباستيان ودانيال، وقررت فجأة أن أنهي كل شئ اليوم.
في البيت كانت لا تزال آثار ملابسي المبتلة تذكرني بتلك الفجأة، وما أن فتح سباستيان باب الشقة عائدا من عمله حتى خرجت إليه، بادرني هو بقوله: أريد أن أتحدث معك!
كان وجهه العبوث يوحي بأن شيئا سيئا يلوح في الأفق، حسنا، فنهار هذا اليوم لم يكن سوى المقدمة، هات ما عندك يا سبيتيان:
قُضي الأمر وستسكن معنا، قالها سباستيان ثم أطلق صيحة المنتصر، فتغيرت ملامح وجهه لأكثر من مائة وثمانين درجة، ثم أخرج من جيبة العقد الجديد ممهورا بتوقيع صاحب العقار.
لم أصدق عيني، كنت كمن يحلم، طرت فرحا، قفزت مرات ومرات، صرت أعانقه ويعانقني، لم أعد أسمع سوى صوت الصمت.