الحكم قدر من الله.. ولا حق لمزاحمة من قضى الله بالسلطة له
استطرد أبوبكر فى خطابه للأنصار فى اجتماع السقيفة قائلاً: «أنتم الذين آمنوا ونحن الصادقون، وإنما أمركم الله أن تكونوا معنا، فقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين. والصادقون هم المهاجرون، قال الله تعالى: «للفقراء المهاجرين» إلى قوله «أولئك هم الصادقون». وأنتم يا معشر الأنصار إخواننا فى كتاب الله وشركاؤنا فى الدين، وأنتم أحق بالرضا بقضاء الله، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، أيهما شئتم وأخذ بيد عمر ويد أبى عبيدة بن الجراح فلم أكره ما قال غيرها، ولما كثر اللغط وعلت الأصوات حتى خشيت الاختلاف -الكلام على لسان عمر بن الخطاب رضى الله عنه- وقلت: «سيفان فى غمد واحد لا يكونان»، وفى رواية «هيهات لا يجتمع فحلان فى مغرس»، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، وكذا قال له من الأنصار زيد بن ثابت وأسيد بن حضير وبشير بن سعد، رضى الله عنهم، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار، وأنكروا على سعد أمره وكادوا يطأون سعداً، فقال ناس من أصحابه اتقوا سعداً لا تطأوه، فقال عمر رضى الله عنه: اقتلوا سعداً قتله الله، ثم قام عمر رضى الله عنه على رأس سعد، وقال: قد هممت أن أطأك حتى تندر عيونك، فأخذ قيس بن سعد، رضى الله عنهما، بلحية عمر، رضى الله عنه، وقال: والله لو خفضت منه شعرة ما رجعت وفيك جارجة، فقال أبوبكر: مهلاً يا عمر، الرفق الرفق ها هنا أبلغ، فقال سعد: أما والله لو كان لى قوة على النهوض لألحقتك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع».
إن هذه الرواية الطويلة التفصيلية التى اشتمل عليها اجتماع «السقيفة» تؤشر على العديد من الحقائق، أولها: وجود شعور راسخ لدى الأنصار بأن المهاجرين يتعاملون معهم بقدر من الاستعلاء والترفع، ومؤكد أن هذا الإحساس لدى الأنصار لم يكن وليد اللحظة التى عبر فيها خطيبهم عنه، بل ارتبط بأحداث تراكمت -فيما سبق- فأدت إلى تمكنه على هذا النحو الذى جعل خطيب الأنصار يتهم المهاجرين بـ«الاستبداد بالأمر». ثانيها: أنه إذا كان اجتماع السقيفة قد سبقه نوع من الترتيب من جانب الأنصار، فقد كان هناك فى المقابل ترتيبات أخرى تتم فى صفوف المهاجرين، يشهد على ذلك تلك العبارة التى وردت على لسان عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، بعد أن سكت خطيب الأنصار «أردت أن أتكلم وقد كنت زورت مقالة أعجبتنى»، ولا خلاف أيضاً على أن إسكات أبى بكر لعمر، رضى الله عنهما، ومبادرته بتقديم خطاب يشتمل على محاججة رفيعة بحق المهاجرين فى الحكم يرجح احتمال وجود ترتيبات معينة تمت فى صفوف المهاجرين لمواجهة هكذا موقف.
ترتبط ثالثة هذه الحقائق بالحجج الرئيسية التى استند إليها أبوبكر فى تمكين المهاجرين من الحكم، وتشمل: الاحتجاج العشائرى، انطلاقاً من أن المهاجرين هم أهل النبى وعشيرته، والاحتجاج القبلى انطلاقاً من حديث النبى صلى الله عليه وسلم «الأئمة من قريش». والأخطر فى الاحتجاجات التى قدمها أبوبكر الصديق هو ما يتعلق بما ذكره من أن العرب لن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش، فصبغ قضية الحكم بصبغة سياسية، جعلت من المبرر بعد ذلك أن تتصارع الأحزاب القرشية على الحكم ليفوز به الأكثر حرفية فى ألعاب السياسة: الأمويون الذين توازى تأخرهم فى اللحاق بالإسلام مع مكوثهم فى انتظار بيضة السلطة.
والأشد خطورة فى محاججة أبى بكر هو تلك النظرة القدرية لمسألة الحكم، استناداً إلى أن الله قدّر أن يكون فى المهاجرين، والنبى صلى الله عليه وسلم قرر أن يكون فى قريش. وقد كان أبوبكر رضى الله عنه صريحاً فى تقرير هذه المسألة حين قال: «وأنتم يا معشر الأنصار أحق بالرضا بقضاء الله»!. ومقولة أبى بكر -على وجاهتها فى هذا الموقف- تحتاج إلى نوع من المراجعة فى ضوء ما يقول به القرآن الكريم، حين نص الله على أن عهده لا يكون للظالمين من ذرية إبراهيم عليه السلام: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِى قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ» (البقرة: 124)، ولو أن الله تعالى ورسوله قد جعلا الحكم قدر المهاجرين وقريش لأشار النبى صلى الله عليه وسلم إلى ذلك حين تحدث إلى الأنصار يوم عبروا له عن قلقهم على أنفسهم من بعده.