«الوطن» تخوض مغامرة جمع توقيعات «انفصال» من قلب الصعيد
منذ اندلاع ثورة يناير 2011، ورجل الشارع المصرى لا يخشى شيئاً بقدر خشيته «مخططات التقسيم» التى كررت وسائل الإعلام تناولها خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، وما بين مشروع الشرق الأوسط الجديد و«مخطط برنارد لويس»، وذكريات السودان والعراق واليمن وليبيا ظهرت دعوة لفصل «الصعيد» عن حكومة القاهرة، فانتشرت استمارة بعنوان «انفصال» على غرار استمارة «تمرد» لجمع توقيعات أهالى الصعيد الموافقين على الدعوة. «الوطن» خاضت تلك المغامرة، وقررت المشاركة فى توزيع استمارة «انفصال» فى قلب الصعيد. مغامرة محفوفة بالخطر لأن الاستمارة التى لم تلقَ رواجاً منذ ظهورها «تهدد الأمن القومى» بحسب ما قاله لنا بعض من عرضنا عليهم منحنا توقيعهم، فإما أن نتعرض لاعتداء الناس وإما أن نُعتقل.
يشتد حرُّ سبتمبر، بينما تبدأ رحلتنا لجمع توقيعات المواطنين الراغبين بالانفصال من محافظة أسيوط. بالقرب من شارع الجمهورية، أهم شوارع المحافظة، تجولنا بين المحلات والبيوت، ليس أمامنا وقت نُضيّعه، عرضنا الأمر على صاحب المكتبة الذى طبع لنا الاستمارات، حاولنا إقناعه بكل السبل «الصعيد لا يحظى باهتمام ويفتقر للخدمات».. «المناطق الصناعية لديكم فى أسيوط تنزف وتنهار»، لكن أياً من الحجج لم تُقنع صاحب المكتبة الذى طلب منا الانصراف فى هدوء.
لم تنتشر استمارة «انفصال» على نطاق واسع فى محافظات الصعيد، حتى من وزّعوها اختفوا بعد توزيع أعداد قليلة منها، وعندما بدأنا رحلة جمع توقيعات المواطنين لأجل الانفصال كنا نعرف أنفسنا أننا «بلدياتك من مركز مطاى فى المنيا.. وزميلى من أسيوط عندكم».. بعد الإفصاح عن أسمائنا أثناء المصافحة والاستئذان بالاستماع إلينا للنهاية حاولنا إقناع إبراهيم على، حارس أحد العقارات القريبة من شارع الجمهورية فى أسيوط، بجدوى الانفصال.. أعطيناه نموذج الاستمارة فقلّبها على الوجهين، وقرأ بنودها، بينما نحن نُكمل حديثنا «طيب فهمنى إيه الغرض من الانفصال؟» تساءل إبراهيم قاطعاً كلامنا مبدياً استعداده للتوقيع، تابعنا حديثنا حتى قطعه ثانية بلهجته الصعيدية القُحة: «مهما كان الصعيد مغلوب ومفهوش خدمات كيف ننفصل يعنى؟ نبقى زى السودان وليبيا؟ ونقتلوا فى بعض؟ اتفضلوا ورقتكم وشرفتونا.. هنطلبو حاجة يبقى نطلب من الدولة تهتم بينا، مش تقول انفصال».
كى لا يتفاقم رد فعل المواطنين، كنا نكشف عن شخصياتنا الحقيقية فى نهاية بعض محادثاتنا مع الجمهور.. «أقسم بالله لولا إنكم فعلا صحفيين.. ما كنت سبتكم تخرجوا من الشارع على رجليكم»، هكذا ببساطة وثبات قالها أحد الشباب فى أحد محلات الموبايل رفض التوقيع على الاستمارة.
موسى داود، خياط، لم يستوعب فى البداية ما نحاول إقناعه به.. لكنه بعد تردد أزاح الورقة التى قدمناها إليه بينما يردد: «فيه إنسان مثقف ومحترم يطلب اللى بتطلبوه» لم يرض داود أن نكرر محاولاتنا حتى مع التطرق إلى الخدمات القليلة التى يفتقر إليها الصعيد، فانسحبنا فى هدوء.
فى اليوم التالى لمحاولة توزيع الأوراق فى أسيوط وصلتنا رسالة من مباحث أمن الدولة مفادها أنه قد تم رصد تحركاتنا ومحاولاتنا جمع التوقيعات من قلب مدينة أسيوط.. لكننا أصررنا على إعادة الكرة فى المحافظة التالية.. «سوهاج».
بالقرب من مديرية أمن سوهاج، اقتربنا من أحد أصحاب المحلات، عرضنا عليه الأمر بينما تعلقت عيناه على الورقة التى بأيدينا، بعدما عرف مرادنا «محتاجين توقيعات أكبر عدد من المواطنين للضغط على الحكومة» فدعانا إلى دخول محله «طيب تعالوا نتكلم جوة».. دخلنا المحل فسألنا فى هدوء، وشىء من التربص: «قولتوا لى بقى توقيع علشان إيه؟».. كررنا ما قلناه فى السابق، ففاجأنا بلهجة صارمة «متهيأليش إن فيه حد ممكن يكون تفكيره سوى يفكر فى الموضوع ده. وعدم وجود خدمات كافية مش مبرر إننا ننفصل عن مصر» أخرجنا «كارنيهاتنا» كى نثبت عدم وجود علاقة حقيقية بيننا وبين تلك الاستمارة، فأنهى صاحب المحل كلامه: «لو كنتم فعلاً تبع بتوع انفصال دول كنت بلغت عنكم الشرطة».
إلى جوار كوبرى أخميم بسوهاج، وقف محمود حفظى، أحد سائقى التاكسى، مجاوراً سيارته فى منطقة ظليلة، تردد «حفظى» فى قراره بمنحنا توقيعه من عدمه، لكنه بشىء من العفوية تساءل: «الخدمات قليلة عندنا لكن أهم بتوع مصر واخدينا معاهم.. لكن لو انفصلنا مين اللى هيفتكرنا؟».
بحسب ما نُشر فى الصحف حول استمارة «انفصال» فإن المحافظة الجنوبية كانت أكثر محافظات الصعيد انغلاقاً فى وجه تلك الدعوة الانفصالية، فى التاكسى تعرفنا بشىء من الود إلى السائق عماد أنور الذى أبطأ فى سيره قليلاً عندما عرضنا عليه الأمر «إحنا من حركة انفصال وكنا محتاجين توقيع مش علشان ننفصل.. لكن كإنذار للدولة إن الصعيد محتاج إعادة نظر منهم». فى البداية بدا على أنور أمارات القبول، فقال: «أوقع بس أفهم أكتر مين اللى ورا الانفصال ده.. هيخدم مين يعنى؟» أجبناه عن سؤاله: «هيخدمك ويخدمنا ويخدم كل أهل الصعيد»، فتابع السائق منهياً الحوار: «لا يا باشا اعذرنى».
اخبار متعلقة
قنا.. حكاية الدم والسياسة من قلب «الصعيد الجوانى»
هنا «السمطا».. احترس أنت فى «وكر السلاح والمخدرات»
توقف القطارات يصيب المحافظة بـ«الاختناق» والأتوبيسات البديل بـ«ضعف الثمن»
الشباب فى مواجهة القبائل.. السياسة لم تعد شأناً عائلياً
سنوات «الثأر»: لجنة المصالحة ترفع شعار «صالح على الدم»
أحفاد شيخ العرب همام: نرفض الدعوة لانفصال الصعيد