الاكتفاء بشأن قضايا أساسية بترديد عموميات ومبادئ وعدم تطويرها لمقترحات قوانين أو إجراءات أو سياسات محددة، هو الخطأ الثالث الذى وقعت به خلال العام والنصف من العام الماضية من الانشغال بالشأن العام والحياة السياسية، فدفاعى عن مدنية الدولة، بشقها المضاد لعسكرة الدولة وشقها الثانى المضاد للاستبداد باسم الدين وشقها الثالث الضامن لحقوق المواطنة المتساوية، لم يكتب له بعد وفى ضوء قصر الفترة التى عمل بها مجلس شعب 2012 وانسحابى من الجمعية التأسيسية للدستور أن يترجم لعمل تشريعى أو دستورى واضح المعالم.
وفيما خص دعوتى لاقتصاد السوق الملتزم بالعدالة الاجتماعية، تخاذلت عن أن أتجاوز الحديث العمومى إلى صياغة متماسكة لمقترحات سياسات عامة وإجراءات مدروسة بعناية (ضرائب، دعم، إعانات، تأمينات، مشروعات صغيرة ومتناهية الصغر) لتنزيل هدف العدالة الاجتماعية على الأرض، تأخرت أيضا، مع زملاء وخبراء، فى صياغة مقترح قانون للعدالة الانتقالية ولم أقدمه إلا فى اليوم الأخير لعمل مجلس الشعب (أى يوم صدور حكم المحكمة الدستورية العليا بشأن قانون الانتخابات).
نعم، لم يكن فى استطاعتى إنجاز هذه المهام بمفردى ولم يكن غيرى من سياسيى الأحزاب والجماعات والمستقلين بأفضل حال، وجميعاً وقعنا تحت سطوة مرحلة انتقالية سيئة الإدارة وذات أزمات متتالية، و تخاذل أكاديمى يمارس السياسة بدلاً من تطوير المبادئ والعموميات وتحويلها إلى مقترحات محددة تتجاوز القشور والعجز عن دفع النقاش العام باتجاه بنّاء، خاصة إذا ما ارتبط بالتوقف عن القراءة والبحث الجد، يصعب أن يقبل، ولى هنا عبرة مستخلصة هى ضرورة العودة للربط بين البحث والسياسة وربما تكوين مجموعات عمل مع باحثين وسياسيين لهم الاهتمامات نفسها بغية الاجتهاد الجماعى (ومجموعة كهذه كانت فى طور التكوين مع الزملاء زياد بهاء الدين وعمرو الشوبكى وأيمن أبو العلا وباسل عادل وأحمد سعيد خلال الأيام الأخيرة لمجلس الشعب).
الرضوخ لضغوط قطاعات بعينها فى الرأى العام ماجت رفضاً لبعض الآراء التى أعتقد فى صوابها ومن ثم التوقف عن الدعوة للآراء هذه أو التعامل معها برمادية هو الخطأ الرابع.
لم أتردد لحظة واحدة قبل ثورة يناير فى الدفاع عن حق تيارات الإسلام السياسى فى الوجود والعمل السياسى ورفضت الممارسات القمعية التى كانوا يتعرضون لها من محاكمات عسكرية واعتقالات وتزوير انتخابات، وكانت قناعتى أن دمجهم على أسس قانونية واضحة فى الحياة السياسية الرسمية وتحول الأخيرة باتجاه ديمقراطى هو الأفضل، وما إن انفتحت حياتنا السياسية بعد 11 فبراير 2011 حتى دعوت لتنظيم علاقة الدين بالسياسة بوضع أطر واضحة للأحزاب ذات المرجعيات الإسلامية بحيث نضمن منع نشأة أحزاب على أساس دينى وتقنين أوضاع جماعة الإخوان وغيرها من الجماعات الدعوية على نحو يحول دون تدخلها فى السياسة.
ضغط قطاعات الرأى العام المؤيدة للإسلاميين وحملات هجومهم المتتالية علىّ ودعايتهم السلبية ضدى دفعتنى، خاصة قبل الانتخابات البرلمانية، للتوقف عن إثارة هذه القضايا وتحاشى الحديث عن حتمية منع وجود أحزاب على أساس دينى وعن تقنين أوضاع الجماعات الدعوية. وظهرت ذات الرمادية فيما خص حرية الإبداع والقيود التى قد ترد عليها فى برنامج تليفزيونى على قناة دينية (الناس)، وبه لم أؤكد بصرامة رفضى لكافة القيود التى ترد على حرية الإبداع وأنه ليس للمؤسسات الدينية ولا للمتحدثين باسم دين، منع أو تحريم أو تجريم كتاب أو عمل أدبى أو فيلم سينمائى.
سرعان ما سعيت لتجاوز الرمادية بشأن حرية الإبداع وسجلت كتابة وحديثاً التزامى الكامل بها، ثم عملت فى مجلس الشعب على توفير ضمانات كافية لها فى مشروع قانون للنشر والحريات كنا نعده فى لجنة حقوق الإنسان. إلا أن السقطة هنا كانت مؤلمة شخصيا لمن يدافع عن الليبرالية وشبهة التراجع أمام ضغوط الرأى العام كانت مزعجة للغاية، تماما كما كان الصمت عن شبهة استناد بعض الأحزاب إلى أساس دينى وتمييزها ضد المواطنات والمواطنين من خارج دين الأغلبية، والعبرة المستخلصة، لا ترضخ ولا تتراجع عن قناعات وآراء إزاء ضغوط جلية للأكاديمى والسياسى، وإن كان هم الأول هو الالتزام بها وشقاءه فى التحايل عليها، بينما السياسى يخشى تداعيات الالتزام هذا على فرصه الانتخابية وقبوله الشعبى وفطرته تدفعه إلى التحايل وتحبيذ الرمادية.
وعزمى فى قادم الأيام هو السير على خط الأكاديمى، كما فعلت فى قضايا مختلفة أو هكذا أظن، وتجاوز السقطات التى حدثت بعدم السماح بتكرر حدوثها.