فى اللحظة التى أعلن فيها مجلس الوزراء ظهر أمس الأول قرار فرض التسعيرة الجبرية على السلع الأساسية فى الأسواق، أيقنتُ على الفور أننا دخلنا مرحلة جديدة من مراحل تدمير المنتجين والمزارعين لصالح فئة كبار التجار التى احترفت تزييف كل حقائق الإنتاج والبيع والشراء فى مصر، ونهب أرباح طائلة من جيوب المزارعين والمنتجين والمستهلكين.
وبعد ساعات قليلة من نشر القرار فى وسائل الإعلام تأكد لى ولغيرى من المتابعين المتخصصين صدق هذا اليقين، فقد سارع المسئولون عن الغرف التجارية فى كل المحافظات ورؤساء أجهزة أسواق الجملة الضخمة، ومسئولو التسعير بالأسواق، إلى التعامل مع قرار «التسعيرة الجبرية» بطريقة شديدة اللؤم تعكس احترافاً بالغاً فى تحويل أكثر القرارات عدلاً، إلى أشدها تغوّلاً ونهشاً لمزيد من الأرباح الطفيلية الإجرامية من المنتجين والمستهلكين معاً، فها هو رئيس جهاز أحد أكبر أسواق القاهرة الكبرى ينضم إلى أمين عام الغرفة التجارية فى واحدة من كبرى محافظات الصعيد، وإلى مسئول التسعير فى أكبر أسواق الدلتا، فى الترحيب المبدئى بقرار فرض التسعيرة الجبرية، ثم ينطلق الثلاثة من هذا الترحيب إلى الاتفاق على شيئين لا ثالث لهما: الأول أن هذا القرار لن يكون له تأثير إيجابى إلا بعد فرض رقابة صارمة على تجار التجزئة الذين يفرضون أسعاراً جزافية لمضاعفة أرباحهم فى ظل غياب الرقابة على الأسواق، الشىء الثانى: أن تجار الجملة لا يتدخلون إطلاقاً فى تحديد الأسعار، فدورهم مجرد تنظيم إدارى فقط، والمنتجات تأتى أساساً غالية جداً من المزارعين والمنتجين الذين يلجأون إلى رفع أسعار تسليم منتجاتهم بسبب أزمة السولار وأزمة الأسمدة التى يحصلون عليها من السوق السوداء.
هذه هى محاور اللعبة الإجرامية التى اتفق كل كبار التجار وأباطرة الأسواق على ترديدها وإقناع المسئولين أولاً والرأى العام ثانياً بها، وهى لعبة مكشوفة لمن يعرف حقائق الإنتاج والتجارة فى مصر، خصوصاً فى مجال السلع الغذائية مثل الفاكهة والخضار، وأهم حقيقة فى هذا الأمر أنه لا يوجد مُزارع واحد فى مصر بإمكانه أن يفرض سعراً محدداً لمحصوله، وأن تحديد سعر بيع أى محصول من المزرعة أو الأرض تحدده مافيا محترفة لا تملك من كل مؤهلات التجارة غير مؤهل واحد، هو فرض سعر محدّد لأى محصول يتم تعميمه بالتليفون من مطروح إلى سيناء ومن الإسكندرية إلى أسوان، ولا يملك مزارع واحد أن يمتنع عن بيع محصوله بالسعر الجائر المتدنى الذى حدّده التاجر، لأن النتيجة ستكون كارثية فى ظل عدم إمكانية تخزين المحصول لأكثر من يوم أو يومين على الأكثر يتعرض بعدها للتلف كله.
الحقيقة الثانية التى بإمكان أى مواطن أن يتأكد منها بنفسه أننا لا نعرف تاجر تجزئة ظهرت عليه علامات الثراء، فالغالبية الكاسحة من هؤلاء التجار مجرد شبكة واسعة من الخاضعين لشروط شديدة القسوة يفرضها عليهم كبار تجار الجملة الذين يحدّدون أيضاً أسعار البيع لهم، وهى دائماً أسعار لا تترك مجالاً إلا لهامش ربح ضئيل، كثيراً ما تلتهمه كميات الثمار المعطوبة، التى يتم التخلص منها، بالإضافة إلى فارق الغش فى الموازين الذى تمارسه أسواق الجملة مع تجار التجزئة الغلابة.
والمحصلة التى سينتهى إليها قرار التسعيرة الإجبارية هى أن المزارعين وتجار التجزئة سيتعرضون لمزيد من نهب عرقهم بواسطة بارونات أسواق الجملة ومقاولى شراء الفاكهة والخضراوات من المزارع والغيطان، وإذا استمر هذا الوضع لعدة شهور فسوف نصحو على كارثة، هى عجز الفلاحين والمزارعين عن الاستمرار فى زراعة أراضيهم، وستشهد الأسواق ارتفاعاً جنونياً فى الأسعار بسبب النقص الحاد فى المعروض، وفى الحالين لن يخسر تاجر كبير جنيهاً واحداً، بل المؤكد أنهم سيجنون أرباحاً طائلة إضافية، سواء زاد إنتاج المحاصيل أو تراجع.
والحل الوحيد لإنقاذ الشعب المصرى من هذه المافيا المنظمة هو فرض تسعيرة إجبارية لشراء المحاصيل من المزارعين وفرض تسعيرة إجبارية أخرى لبيع المحاصيل للمستهلكين بعد تحديد هامش ربح يتوزّع على حلقات تداول المحصول من المزرعة إلى المستهلك، فلم يعد مقبولاً أبداً أن يطفح الفلاح الدم لإنتاج غذاء الشعب كله ولا يجد ما يأكله بسبب الغياب المطلق لكل أجهزة الدولة عن حمايته من السعر القهرى الذى يفرضه عليه تاجر متوحش يتمتع بحماية زملائه فى الغرف التجارية والصناعية، ومع فرض تسعيرة جبرية للسلع سيلجأ التجار فوراً إلى مزيد من خفض سعر شراء المحاصيل من الفلاحين ومزيد من خفض هامش ربح تجار التجزئة لكى يحتفظوا بأرباحهم الطفيلية الطائلة كما لم يعد مقبولاً أن نستهلك معظم طاقة البلد فى ثورتين كبيرتين لكى نحصل على وزراء ومسئولين على درجة عميقة من الجهل بأبسط المعلومات عن حالة البلاد والعباد.