بعد ثورتين كبيرتين.. كل شىء تغير فى مصر فعلاً، ولكن إلى الأسوأ.
أثناء الثورة الأولى فى 25 يناير 2011 والثانية فى 30 يونيو 2013، كان بإمكان أى مراقب أن يرصد منظومة القيم الرائعة التى تجلّت فى كل ميادين الثورة، وأن يلامس مشاعر التسامح والرحمة والاحترام المتبادل التى ظهرت فى السلوك الجمعى للجماهير الغفيرة فى المسيرات الحاشدة. وبعد أسابيع قليلة من الثورتين مباشرة، لاحظ كثيرون أن منظومة القيم الرائعة تراجعت بسرعة مدهشة، وعادت مشاعر القسوة والكراهية والتدافع الغليظ وانعدام المروءة لتطفو على سطح السلوك الجمعى المصرى مرة أخرى.
صحيح أن منظومة القيم المنحطة كانت موجودة قبل الثورتين، ولكن حضور الدولة بكل أدواتها -رغم ضعفها وفسادها- كان كفيلاً بكبح الكثير من الانفلات وتخفيف آثار الغلظة والجلافة وفساد الأخلاق فى الشوارع وأماكن العمل، وبعد الثورتين أدى الغياب الواضح للدولة والأيدى المرتعشة فى كل الأجهزة التنفيذية إلى عودة منظومة القيم الفاسدة بكل جبروتها دون أدنى خوف من المساءلة أو الردع.
لقد أصبح عادياً ومألوفاً أن تقطع القاهرة الكبرى من شمالها إلى جنوبها، ومن الشرق إلى الغرب، فلا ترى أثراً لأجهزة الدولة ولا تشاهد من كل أدوات الضبط الاجتماعى غير كمائن المرور التى تقف دائماً فى أماكن تؤدى إلى مزيد من إعاقة حركة السيارات، وعلى مقربة منها تتكدس سيارات «الميكروباص» فى مواقف عشوائية تشغل عدة حارات من الطرق دون أن يجرؤ ضابط مرور على التعرض لهذه الجحافل المسلحة بالمطاوى والخناجر والسباب البذىء.
أما أفظع مظاهر غياب الدولة فيتمثل فى كل مستشفيات مصر العامة والخاصة، ولا يكاد يمر يوم واحد دون أن أسمع مأساة مروعة تحدث فى المستشفيات الحكومية التى تحولت بعد الثورتين إلى أماكن انعدمت فيها الرحمة وتفشت بين العاملين فيها، من المدير إلى فرد الأمن، سلوكيات فظيعة، أهمها التهرب بكل الأساليب من تقديم أى خدمة للمرضى، والتفنن فى صرف المرضى إلى مستشفيات أخرى لا تلبث بدورها أن تحيل المريض إلى مكان آخر، وفى حالة إصرار أقارب المريض على تلقى الخدمة، يلجأ الطبيب إلى إزاحة عبء الخدمة إلى الممرضة، وبعد دقائق تزيح الممرضة المهمة إلى عاملة نظافة شديدة الفقر تقدم بعض الرعاية لمريض فقير مثلها لقاء «إكرامية» تنقذها من غائلة الجوع.
وفجر أمس «الجمعة» شهد مستشفى الهرم العام واحدة من هذه الفظائع التى تحدث يومياً فى كل المستشفيات العامة، فقد تعرض صبى صغير عمره 15 عاماً لحادث تصادم أدى إلى كسور مضاعفة فى عظام الحوض والفخذ، وسارع به أهله إلى قسم الطوارئ فى مستشفى الهرم، وهناك -وطبقاً لتعليمات غامضة من مدير المستشفى- لم يفعل الطبيب المناوب غير خياطة الجروح وتأجيل التدخل الجراحى وتجبير الكسور حتى يقوم والد الصبى بإيداع 8 آلاف جنيه فى خزينة المستشفى، ولم تشفع أبداً توسلات الأب فى تغيير القرار، وحتى مساء أمس ظل الصبى «مرمياً» دون علاج، لأن والده الفقير لم يتمكن من تدبير أكثر من ألف جنيه فقط.
من أى نبع قذر تفجرت هذه القسوة فى مجتمع انتفض مرتين رفضاً للفساد وانعدام الرحمة فى حياتنا؟ ومن المسئول الفاسد والمريض نفسياً الذى أعطى تعليمات شفوية لكل المستشفيات بعدم علاج الفقراء على نفقة الدولة.. وترك المرضى والجرحى لمصيرهم المؤلم إذا لم يتمكنوا من تدبير كل نفقات العلاج؟ وأى مصير ينتظرنا إذا ظلت الأيادى المرتعشة والفاسدة هى المسيطرة على كل أجهزة الدولة؟