فى مثل هذه الأيام منذ 18 عاماً شاركت بجهد متواضع فى تجربة جريدة الدستور، التى رأس تحريرها وقادها وصنع طبختها الشهية الموهوب إبراهيم عيسى، كنت واحداً من أوائل من تحدث معهم إبراهيم فى العدد زيرو، الذى ما زلت أحتفظ بنسخة منه فى مكتبتى حتى اليوم، كانت تجربة ثورية بكل معنى الكلمة على مستوى الشكل والمضمون ولم تأخذ حظها بعد فى الدراسة الأكاديمية لأنها وبلا مبالغة قلبت موازين الصحافة آنذاك وصارت بمثابة نهر التمرد المستقل وشريان المعارضة الوحيد فى مجال الإعلام الخاص وكانت البديل المتاح وقتها لكل الفضائيات المستقلة الحالية، أعجبنى فى إبراهيم قدرته على الحلم وثقته فى قدرة الخيال والإبداع على صنع المستحيل، عندما زرته لأول مرة فى مقر الجريدة للتجهيز للعدد زيرو وصعدت فى الأسانسير المتهالك ودخلت عليه غرفته الخالية إلا من كرسى مكسور وعدة صور على الحائط تتصدرها صورة صلاح جاهين وابتسامة ثقة على وجه الموهوب المتمرد الجامح، وجدته يتحدث عن سقف طموح يصل إلى عنان السماء ويتجاوز السحب والنجوم، وبالفعل أدهش الجميع بصحيفة كان كل سطر فيها بصمة تجاوز للمألوف وتحديا للمتعارف عليه والبديهى والسائد، شاركه الحلم موهوب آخر هو فنان الإخراج الصحفى وأستاذه والمتوج على عرشه فى مصر د.أحمد محمود، فى الشكل كانت قيمة الصورة التى من الممكن أن تحتل ثلاثة أرباع الصفحة، ولا أنسى أثناء معركة نصر أبوزيد صورته الفوتوغرافية الرائعة المليئة بالشجن والتى احتلت معظم الصفحة ونقلت كل مشاعر الحيرة والحزن والألم المطلة من عينيه، الاهتمام بالكاريكاتير والعناوين الفرعية، الجرأة فى استخدام العامية بثرائها وجمالها الكامن المراوغ الشقى، شكل الخط الجديد غير التقليدى فى المانشيتات، بهجة الألوان، تقسيمة الصفحة وحجم الفونت المريح للعين، المقالات القصيرة، كل هذا على مستوى الشكل، أما على مستوى المضمون فقد كان كسر التابوهات والبحث فى المسكوت عنه سياسيا ودينيا وثقافيا واجتماعيا هو المنهج والطريق، بداية من اقتحام عماد أبوغازى وصلاح عيسى مناطق التاريخ الملغومة المسكوت عنها، وحتى اقتحام المصور حسن عبدالفتاح المجتمعات المخملية وكشفه للستار عن المستخبى والليلى وغير المباح!، ظلت جريدة الدستور عيناً ثالثة لكل قارئ، وجهاز أشعة كاشفاً لكل مواطن وراداراً لاقطاً لكل مصرى، وزرقاء يمامة صارخاً لكل من يبحث عن نبوءة صدق، وظل إبراهيم عيسى يشرب من بحر الصحافة المالح فيزداد عطشاً للتمرد حتى على نفسه وعلى رؤيته وآرائه القديمة فيتجاوزها دائماً إلى البكر والطازج والمدهش.
الواحد منا يموت وتكتب شهادة وفاته عندما يفقد قدرته على الحلم برغم أنه يتنفس، ويصنف من قبيلة الخرس حين تتقلص أحلامه برغم ثرثرته، شكرا لكل التجارب الجميلة التى تمنحنا قبلة الحياة فى زمن جهاده انتحار وانتحاره جهاد.