عندليب المستشفى: سمعت حليم بيقول «الناجح يرفع إيده».. فطلع طريقى «مسدود مسدود»
يرتدى بيجامة بنية اللون متسخة.. كل ما يتمناه أن يغيرها بجلباب فضفاض يستريح فيه.. يصحو من نومه يومياً فيلتقط كتاباً باللغة الانجليزية، يُقلب صفحاته بتروٍ ويتذكر أنه يحفظه عن ظهر قلب فيضعه مكانه مرة أخرى، يُزيل من عليه الملاءة البيضاء التى تُغطيه ينظر إلى ذلك الشباك ذى الأسوار الحديدية ينتظر شعاع الشمس حتى يتخلل غرفته الصغيرة بعنبر (19) بمستشفى الأمراض العقلية.. شعاع حرية يمس جسده فيفتقد حرية «الخارج»، يلعب فى أظافر قدميه ويديه الطويلة فيجد أن عمرها من عمر دخوله إلى المشفى منذ أكثر من 30 سنة، وما أن تطرق الهموم على أبواب عقله يهرب منها بعيداً ويدندن (قابلته.. نسيت إنى خاصمته ونسيت الليل اللى سهرته.. وسامحت عذاب قلبى.. تن تن تن).. فيخرج زملاؤه من عنابرهم هاتفين مهللين: «الله عليك يا عندليب.. هوه ده الطرب ولا بلاش».
على الأوراق يدعى «عيد» وداخل العنبر يطلق عليه رفقاؤه «حليم» يرشف بعضاً من كوب الشاى ثم ينفث دخان سيجارته الكليوباترا التى اقتنصها من أحد زوار المستشفى، ممعناً نظره على ذلك الميكروفون الذى سيقف أمامه على خشبة مسرح المستشفى فاليوم هو نجم الحفل، لذا يستفتح أولى الكلمات «نبتدى منين الحكاية»، حكايته التى بدأت حين استلم ورقة امتحان اللغة الفرنسية التى كانت عشقه، يقبض بيديه على ورقة الأسئلة، تفحصها وأمعن فيها فلم يعِ شيئاً يومها عاد إلى منزله الكائن بالزاوية الحمراء والخيبة على منكبيه، عامان ظل فيهما يجلس نفس الجلسة ويشخص بصره فى الحبر الذى كُتبت به الأسئلة ولا يجد جواباً شافياً بالرغم من حفظه للكتب المدرسية عن ظهر قلب.. يشدو صوت العندليب الأصلى من شقة الجيران بعد ظهور النتيجة «الناجح يرفع إيده».. فيما يقبع وحيداً داخل غرفته والخوف يتملكه حين تأكد أن طريقه «مسدود مسدود».. يومها حدثت المشاجرة التى نقلته من الحى الشعبى إلى مستشفى الأمراض العقلية: «يومها حصلت خناقة بينى وبين مراة أبويا.. مكنتش بسمع الكلام.. قعدنا نزعق فى بعض جامد وجابونى على هنا ومن يومها ونفسى أرجع الشارع تانى».
«مايكل جاسكون وديميس روسس ومادونا» أسماء يرددها بين الحين والآخر ويسأل عن آخر إنتاجهم الغنائى، يؤكد أنه يجيد التحدث بخمس لغات (ايلى بوى.. تيرملوغ).. كلمات يتفوه بها ولا يدرى معناها، يحاول من خلالها إثبات إجادة اللغات الحية، يزيل الأتربة من على الكتب المتراصة أمامه داخل ذلك العنبر الضيق.. سبب وحيد هو ما يرغب من خلاله الخروج إلى نهر الشارع خارج أسوار مشفاه، هو شراء بعض الكتب الأجنبية بديلاً لتلك التى اصفرت أوراقها، علاوة على اقتناء شرائط كاسيت لزملائه من المطربين العالميين والمصريين، عسى أن تؤنس وحدته وتثرى عالمه الفنى.
أكثر لحظاته سعادة حين يفتح ستار المسرح، فعندها يعلم أنها لحظات ويقف أمام جمهوره.. يعدل تسريحة شعره، ويمايل يده يمنة ويسرة، مايسترو فى حلة بسيطة يشير إلى فرقته الموسيقة، غير الموجودة، مردداً «ابقى افتكرنى.. حاول حاول تفتكرنى» يغنيها لأخيه، الشخص الوحيد الذى لم ينقطع عن زيارته الشهرية، لم يسعفه السن للزواج فقد حضر للمستشفى طالباً، «أنا مليش أصحاب هنا» يقولها بأسى رغم حب الجميع الواضح له وشهرته بينهم، فهو لا يرى سوى فى الممرض المسئول عن عنبره صديقاً له.. طول الفترة التى قضاها داخل أركان المكان جعلته لا يعلم شيئاً عما يدور خارجه «مش دارى بالناس اللى بره.. اللى أفتكره إنى لما دخلت المستشفى كان حسنى مبارك ماسك مصر.. بس سمعت قريب إنه مات واتشنق.. مش عارف مين اللى عمل كده».