الغربة وصاحبها هو المغترب أو الغريب (أى غير المألوف وغير المعتاد عليه وغير المتشابه أو متسق مع محيطه أو جواره)، ونطلق كلمة المغترب على من يترك مكانه ومعارفه وموطنه.
الغربة تجربة ليست بالسهلة، كثير من المغتربين يأخذهم الافتقاد والحنين وتعتريهم نوبات الشوق الجارف لأوطانهم، خاصة من اغترب مجبراً، كالباحث عن الرزق أو فرص عمل، أو من أبعد عن بلاده قسراً بالتهجير أو فاراً من (حرب ودمار)، هذا النوع من المغتربين تأكل قلبه أغانى الغربة وذكريات بلاده، وتراه يشتاق لأى شىء يأتى من صوبها متمنياً العودة لملامسة ترابها، مستدعياً فى خياله كل ما مر به فى السابق من ذكريات وأيام وحياة وأحباب ورفاق.
الغربة من التجارب التى تختبر مدى تعلق أرواحنا بالأرض والأهل والأصدقاء والأماكن، ويصبح ما كنا نضجر منه بالأمس، مفتقداً وعزيزاً حينها، حتى أبسط الأشياء، ألم يقل محمود درويش «أحن إلى خبز أمى وقهوة أمى ولمسة أمى»!
الغربة تجربة بالفعل صعبة.
لكن هناك اغتراباً آخر، أظنه أكثر قسوة وصعوبة، اغتراب دون أن تترك مكانك أو بلدك الذى نشأت به، أو رفاقك ودارك، وهو الاغتراب (داخل الذات)، وهذا يحدث إذا ما انسلخت روحك وبَعُدَ تفكيرك عن المحيط والمحيطين بك! إذا شعرت باختلاف الطباع وطريقة التفكير، والمواقف ورؤية الأمور والتصرف إزاءها، لدرجة كبيرة لا تمكنك من التفاهم بسهولة مع من حولك.
وقتها أنت لا تستطيع الانخراط وسط الناس ولا الاستمتاع بحديثهم، لا تضحكك ضحكاتهم ولا تهتم لثرثراتهم، هنا يختلف توقيتك عن الآخرين وتختلف المشاعر وتختلف الاهتمامات، لا تعود تفهم اللغة ولا الإشارات ولا تلتقط أى موجات إنسانية. فى هذه الحالة أنت لا تبتعد بالجسد، بل يكون اغترابك ذهنياً ووجدانياً، فترحل وأنت بمكانك، هجرة بداخل الروح (هذا الانعزال يعادل تماماً ارتحالك إلى أبعد نقطة فى هذا الكون)، حيث إن الاغتراب فكرة قبل أن تكون فعلاً، ومشاعر وشعور قبل أن تكون مسافات وبحوراً، والدليل على هذا أن بعض الناس يصنع فى الغربة وطناً ويستأنس بمعارف جدد وعالم جديد، عالم لم يختبر معهم ألماً أو خذلاناً أو ضيقاً، وبهذا تتحول الغربة إلى وطن وينقلب معنى الاغتراب كلياً.
إذن فليس كل من ارتحل اغترب وليس كل من بقى استقر واستأنس بمحيطه!