إذا أردت أن تعرف بشكل دقيق التوجهات الاقتصادية والاجتماعية لنظام الحكم السائد فى مصر بعد ثورتين كبيرتين، فلا تشغل نفسك بالتصريحات الصادرة عن الوزراء أو رؤساء الوزارات، واذهب إلى القوانين التى تنظم الضرائب ومشروعات القوانين التى تقدم بها وزراء المالية لتنمية موارد الدولة من الضرائب بكل أنواعها، وسوف تكتشف على الفور أن خروج ملايين المصريين فى ثورتين للمطالبة بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية، وأن جبال الأوراق البحثية والمقترحات التى تقدم بها مئات الخبراء لإصلاح النظام الضريبى وآلاف المقالات التى نشرتها الصحف، لا أثر لها على الإطلاق فى أداء كل الوزراء الذين تعاقبوا على وزارة المالية بعد ثورة 25 يناير 2011 وحتى الآن، وأن النظام الضريبى المصرى لم يكن فقط هو من أسوأ النظم فى العالم، بل يتجه بعد ثورة 30 يونيو إلى اكتساب صفة أسوأ نظام ضريبى عرفته البشرية فى تاريخها الحديث والمعاصر.
والحكاية أن وزير المالية الجديد هانى قدرى فاجأنا قبل أيام بأن وزارته تدرس إقرار ضريبة إضافية على الأغنياء الذين يزيد دخلهم فى العام على مليون جنيه، قيمتها 5٪، وكان شديد الحرص فى التأكيد على أن هذه الضريبة الجديدة ليست على الثروة التى يملكها الأغنياء، ولكنها على الأرباح الصافية التى يحققونها.
وقبل أن تنتهى الدهشة من هذا التسرع الذى أخذ شكل «الترقيع» بدلاً من انتظار تشريع جديد يتوافق مع الدستور الحالى الذى ينص على فرض ضرائب تصاعدية، زالت الدهشة تماماً عندما كشف هانى قدرى عن أن عدداً كبيراً من رجال الأعمال هم أنفسهم الذين تقدموا بهذا المقترح لحكومة الدكتور حازم الببلاوى التى استقالت قبل أن تفصل فيه، لنفهم من ذلك أن رئيس الوزراء الحالى ووزير ماليته الجديد قررا الفصل فى الاقتراح بالموافقة العاجلة التى هلل لها البعض وتجاهلها البعض، ولكن هناك من تعامل مع هذه الموافقة باعتبارها «طلقة كاشفة» تحدد بدقة شديدة نوعية المسئولين الذين يتحكمون فى أقدارنا بعد ثورة 30 يونيو.
والحقيقة أن هذا القرار يمثل ضربة موجعة ومهينة لكل الذين ينتظرون أى تغيير فى قضية العدالة الاجتماعية، ويقضى على كل مطالب خبراء المالية وأساتذة الموارد برفع السعار الضريبى الشرس عن كاهل العمال والموظفين، والتوسع فى فرض ضرائب تصاعدية عادلة على الأرباح التجارية الريعية الفاحشة، ويكفى لأى مواطن مهموم بقضية العدالة الاجتماعية فى مصر أن يعود إلى تقرير رسمى أصدرته اللجنة الاقتصادية فى مجلس الشورى عام 2010، وعلق عليه بمقال رائع فى «الأهرام» الدكتور على الدين هلال، ليكتشف أن ما يدفعه الموظفون والعمال من الضرائب على الدخل يزيد عشرين مرة عن كل الضرائب المتحصلة من النشاطين التجارى والمهنى مجتمعين، وأن شركات الحكومة وحدها تسهم بأكثر من 48٪ من حصيلة الضرائب العامة، ومعنى هذا يا سادة أن الأخ هانى قدرى قد استجاب هو والمهندس إبراهيم محلب لضغوط رجال الأعمال، ووافقا على إفلاتهم من الخضوع لأداء ضرائب تصاعدية على أرباحهم الفاحشة التى نهبوها من عرق المواطنين ومن نهش الموارد العامة دون حساب.
إن ما يدفع شخصاً مثلى إلى الشك فى كل شىء وفقدان الأمل فى كل شىء، هو أن «كورال» المطبّلتية والمخبرين والمتسلقين السفلة أهلكونا بأحاديثهم عن ضرورة تخفيض سقف مطالبنا، والتوقف عن الإضرابات والمطالب الفئوية، بل والتضحية من أجل مصر، ولم يتوقف واحد منهم ليسأل نفسه: وهل هذا وقت تحقيق مطالب اللصوص بأقصى سرعة.. والإبقاء على رؤساء مجالس إدارات شركات القطاع العام الفاشلين والفاسدين.. وتمكين رجال أعمال النهب المنظم من الإفلات من الضريبة التصاعدية التى ينص عليها الدستور الجديد وتطبقها كل الدول الرأسمالية دون استثناء واحد؟!.