إبراهيم حجازي يكتب: "الحب كله".. رأيته في جنازة عبدالناصر!
إبراهيم حجازي
هذه السنة الخمسون على وفاة الرئيس عبدالناصر.. الذى جاءت وفاته فى سبتمبر 1970.. مفاجأة مدوية وصدمة محزنة للوطن العربى كله لا مصر وحدها!. هذه السنة مصر احتفت رسمياً وشعبياً.. بمناسبة مرور نصف قرن على وفاة عبدالناصر.. وهذه السنة أيضاً.. هى مثل كل سنة.. ما إن يأتى سبتمبر.. تقام «الحفلة» إياها.. حملة العداء والكراهية والتشهير والرفض للحقبة الناصرية.. وفى القلب منها الزعيم عبدالناصر!. عن هذه السنة وكل سنة فيها شهر سبتمبر.. عندى شهادة على جنازة عبدالناصر.. وملاحظة على «حرب» تجريف الرموز التى بات سبتمبر من كل عام عيداً لها!. أبدأ بحملات العداء الذى أصبح سبتمبر شهرها وعيدها والتى تركيزها الأساسى على أهم رموز الوطن.. الزعيم جمال عبدالناصر.. ربما من منطق ابدأ بالكبير وركز على الكبير.. مصر «ما يعيش» لها كبير.. وهو ده المطلوب!. هذه الحرب قائمة من سنين ولم تترك رمزاً فى مجال إلا ومَزَّعَتْه.. باسم حرية الرأى وحرية النقد وحرية الإبداع!. وأنا مع كل حرية إلى أبعد مدى.. بشرط أنت حر ما لم تضر.. ومفهوم الحرية ليست فوضى.. وحريتك تتوقف أمام حريات الآخرين!. «حرب» تجريف الرموز.. لعبت على نقطة غائبة عن أغلبنا.. وهى أن الإنسان.. أى إنسان.. وارد أن يخطئ لأنه بشر وإذا أخطأ نحاسبه على خطئه.. لا أن ننسف تاريخه ومستقبله!. والرئيس عبدالناصر.. له وعليه والتاريخ هو من يحكم.. بالعقل والمنطق بعيداً عن الميول والأهواء و«الحرب».. «حرب» تجريف الرموز المصرية والعربية.. من قبل صلاح الدين وإلى اليوم وكل يوم.. ما لم نفق من غفوتنا.. وهذا يفسر لنا لماذا عبدالناصر هو الهدف الرئيسى لهذه الحرب؟. ولماذا هذا الإصرار الرهيب منا على خلق قضايا خلافية لنا.. لأجل أن ننشغل بها ونختلف فيها ونكره بعضنا بسببها وفى النهاية الخصام يشتتنا ويفرقنا!. وهذا هو المطلوب.. ننشغل بالأمس وننسى اليوم والغد!. ننسى أن مصر من أطاحت بالإخوان فى حرب إرهاب وحرب بناء وحرب مياه وحروب من كل نوع من كل الاتجاهات!. ننسى أن مصر فى أشد الحاجة إلى تقاربنا لا تباعدنا وتكاتفنا لا تمزقنا!.
الحكاية من أولها لآخرها.. نختلف ونفترق ونتفرق ونتمزق.. بتساؤل شكله برىء ومضمونه جحيم: عبدالناصر ولا السادات؟.. وابقى قابلنى لو لقيت اتنين بيكلموا بعض!. تلك كانت ملاحظتى على سبتمبر وحرب التجريف.. وهذه شهادتى على جنازة عبدالناصر.. وأبدأها بنقطة ربما أغلبنا لا يعرفها.. وهى أن ملايين الشعب المصرى زحفت على القاهرة من ساعات ليلة الجنازة!.
أنا شاهد على جنازة عبدالناصر.. بحكم معايشتى لهذا الحدث غير المسبوق قرابة الـ20 ساعة متتالية.. ضمن تشكيل اللواء 75 مظلات.. المكلف بتأمين مقر مجلس قيادة الثورة الذى ستخرج الجنازة منه والمنطقة المحيطة به. الأوامر الصادرة للعقيد سمير الطناوى قائد لواء المظلات.. أن طائرة هليكوبتر فى الثامنة صباحاً ستهبط فى نادى الجزيرة حاملة الجثمان الذى سيتم نقله بسيارة إلى مقر مجلس قيادة الثورة.. وأن الملوك والرؤساء المقيمين فى فندق الهيلتون سيحضرون بالسيارات إلى مجلس قيادة الثورة قبل أن يصل الجثمان.. وأن عربة المدفع التى تجرها خيول.. يبدأ اصطفاف كبار ضيوف الدولة خلفها ويوضع النعش الملفوف بعلم مصر فوقها.. وتتحرك إلى أن تصل إلى كوبرى قصر النيل وتقطعه حتى نهايته وتتجه يساراً للدخول فى شارع كورنيش النيل من الاتجاه العكسى إلى أن تصل قبالة الهيلتون.. ويغادر الملوك والرؤساء وتنتهى الجنازة الرسمية وتبدأ الشعبية بالسير حتى نهاية المتحف ودخول شارع رمسيس حتى العباسية ثم الخليفة المأمون حتى مسجد عبدالناصر الذى سيدفن فيه الجثمان. تلك كانت التعليمات التى صدرت.. الكلام لا يوجد أسهل منه.. إلا أن تنفيذ هذا الكلام.. «مش» صعب.. ده مستحيل!. ليه؟. لأن التعليمات موضوعة على أساس أن هذه المنطقة ستكون خالية من البشر!. من كوبرى قصر النيل إلى ما بعد ماسبيرو على الكورنيش.. ومن كوبرى الجلاء إلى ميدان التحرير مروراً بكوبرى قصر النيل!. ما كان مفروضاً أن يكون خالياً.. كان لا موضع لقدم فيه من قبل أذان الفجر بساعتين!. والله العظيم.. تمثال سعد زغلول لم يعد ظاهراً من البشر الذين تسلقوه حتى وصلوا قمته!. هذا ما حدث للتمثال الذى يصعب الصعود فوقه.. فما بالنا بالآلاف الموجودين على الأرض!.
التعليمات لم يعد هناك منطق يحكمها.. لأن ملايين الشعب زحفت صوب القاهرة من كل مكان بمصر.. لأجل وداع حبيبها ورئيسها!. الذى رأيناه وعشناه من لحظة وصولنا إلى حديقة الحرية التى تمركزنا فيها.. وعلى مدى ساعات الليل وحتى ظهر يوم الجنازة.. شىء يستحيل توقعه ويصعب وصفه ومستحيل منعه!. ما عشناه وزملائى.. غير مسبوق ولا مثيل له!. ملايين الشعب من كل الأعمار والفئات.. حزنهم واحد ورد فعلهم واحد وحبهم لعبدالناصر واحد!. أى رصيد ذاك لهذا الرجل فى قلوب وصدور وعقول ملايين الشعب؟!.
زحف الملايين من كل مكان بمصر.. حدث وصفه صعب.. لأنه أكبر من أى حب وأعظم من كل وفاء!. بكل المقاييس سير الجنازة سيكون صعباً جداً لأن مشاعر الملايين باتت خارج السيطرة!. بعد مداولات ما بين السيد على صبرى والفريق فوزى والسيد عبدالمحسن أبوالنور.. تقرر تأخير الجنازة إلى ما بعد فتح ممر فى الحشود لأجل الوصول إلى الهيلتون!. تم عمل «كردون» من ثلاثة صفوف تحيط بالعربة والضيوف.. «الكردون» من الحرس الجمهورى والصاعقة والمظلات.. لتأمين سير عربة المدفع التى عليها الجثمان حتى الفندق!. وما إن بدأت العربة فى التحرك.. تحركت المشاعر بالهتافات ثم بالاستماتة لأجل ملامسة النعش!. الضغط البشرى على «الكردون» الأمنى رهيب.. واستماتة للحفاظ على كل ما هو داخل «الكردون»!. أى انفلات لتشابك الصفوف الثلاثة المكونة للكردون.. معناه كارثة لا قدر الله!. ربما كان هذا الأمر أصعب موقف عشناه وأطول طريق قطعناه!. وصلت العربة قبالة الفندق.. وتوقفت إلى أن يتم إخلاء «الكردون» من الملوك والرؤساء!. الكل خرج محمولاً على الأعناق.. لاستحالة النفاذ على الأرض!. أذكر أن الرئيس مكاريوس.. سقط حذاؤه ودخل الفندق بفردة واحدة!. القذافى رحمة الله عليه ومجلس قيادة ثورته.. لم يتوقفوا عن البكاء!. انتهت الجنازة الرسمية أو انتهى الجهاد الأصغر ليبدأ الجهاد الأكبر.. لأن آلاف الأيدى تريد أن تأخذ النعش من على عربة المدفع وتحمله على أكتافها وتسير به حتى المسجد!. دخلنا فى اللاوعى.. ولولا صدور التعليمات بتحرك العربة فوراً.. والأمر الثانى بعدم دخولها شارع رمسيس المغلق بالبشر على مدد الشوف.. والأمر الثالث.. التوجه إلى أول شارع الجلاء من جهة الكورنيش.. ووقتها كان المكان نهاية محطة المترو.. ولأن الشارع بأكمله ليس فى خط سير الجنازة.. كان المكان خالياً إلى حد ما.. بما سمح بنقل الجثمان من عربة الخيول إلى عربة مدرعة.. هى التى أنقذت الموقف.. المستحيل إنقاذه!. لا التاريخ القديم ولا التاريخ الحديث.. شهدا جنازة فيها هذا العدد من ملايين البشر.. وهذا القدر من الحزن ومن الحب ومن الامتنان لإنسان!.
«الحب كله» الذى رأيته من خمسين سنة فى جنازة عبدالناصر.. لن تنال منه حملات سبتمبر السنوية.. لأنه شهادة من ملايين الشعب.. مستحيل إغفالها ويستحيل التشكيك فيها!.