مات إدوارد شيفارنادزه!
حين وصلت الاتحاد السوفيتى للدراسة فى نهاية الثمانينات كان شيفارنادزه وزيراً للخارجية وواحداً من ألمع مهندسى البريسترويكا التى قادها ميخائيل جورباتشوف لإعادة بناء الدولة، لكنها عجلت بانهيارها!.. كنت أتابع دروسى فى اللغة الروسية، تغمرنى سعادة كبيرة بعد أن تخلصت من هاجس الفشل فى تعلم هذه اللغة الصعبة!.. بعد بضعة أشهر قطعت شوطاً كبيراً سمح لى فى يوم ما أن أضحك على لهجة شيفارنادزه أثناء كلمة له أمام البرلمان!.. كان الرجل قوقازياً من جورجيا ولم أدرك حينها أن الشعوب السوفيتية العديدة تتحدث الروسية بلكنات مختلفة!.. تذكرت هذه الحادثة وأنا فى طريقى للفيلا التى خصصها الزعيم الجورجى الشاب ميخائيل ساكاشفيلى للرئيس المخلوع إدوارد شيفارنادزه على أطراف العاصمة تبليسى كمقر لإقامته، بعد انتصار ثورة الورود التى تزعمها ساكاشفيلى فى نوفمبر 2003. لم أصدق أن الرئيس الذى أطيح به قبل بضعة أيام يوافق على إجراء حوار تليفزيونى!.. تخيلت أن حالته النفسية لن تسمح له إلا باحتساء النبيذ الجورجى الشهير عله يساعده فى نسيان مصيبته!.. استقبلنى الرجل بابتسامة عريضة وترحاب حار كعادة القوقازيين.. تأملت صوره المعلقة على الجدران.. واحدة تجمعه مع زميله آنذاك وزير الخارجية الأمريكى جيمس بيكر وأخرى مع الرئيس جورج بوش الأب وثالثة مع المستشار الألمانى هيلموت كول.. لاحظ استغراقى فى مطالعة الصور، فهتف: إنه تاريخ حافل وشخصيات استثنائية!.. كان الرجل محقاً فى تقييمه، من زاوية مشاركته شخصياً فى كتابة صفحات مهمة من تاريخ تلك الفترة، لا يعنيه ما يردده كثيرون من اتهامات تطاله مع جورباتشوف بشأن دورهما فى الإجهاز على الاتحاد السوفيتى!.. فى عام 1985 تبوأ شيفارنادزه منصب وزير الخارجية خلفاً للفولاذى أندريه غروميكو، الملقب فى الغرب بـ(السيد لا).. لذا لم يكن غريباً أن يصف غلاة الشيوعيين الوزير الجديد بالخائن بسبب سياسته التى رأوها مهادنة لأمريكا ولرفضه لاحقاً التدخل لقمع الثورات التى اجتاحت دول الكتلة الشرقية.. كان شيفارنادزه يردد مقولته الشهيرة: «لقد حان الوقت لإدراك أنه لا اشتراكية، ولا صداقة، ولا حسن جوار، يمكن أن ينتج بالدبابات أو الدم!».. اختلف مع جورباتشوف وقدم استقالته مدفوعاً بقناعة مفادها: (الدكتاتورية آتية ولم يعد للإصلاحيين مكان إلا الغابات!).. أصبح وطنه جورجيا هو الغابة.. انتخب رئيساً للجمهورية فى 1995، ثم أعيد انتخابه بعد خمس سنوات فى اقتراع وصف بغير النزيه.. ربما دق ذلك أول مسمار فى نعش نظام شيفارنادزه الذى كتب لى القدر أن أشهد انهياره الدراماتيكى!.. كنت أقف أمام البرلمان الجورجى وسط عشرات الآلاف من الساخطين على حكم ثعلب القوقاز العجوز، أصف لمشاهدى قناة (العربية) تطورات الأحداث.. لم أصدق مشهد اقتحام زعيم المعارضة ساكاشفيلى قاعة البرلمان بينما كان شيفارنادزه يلقى خطابا.. لحظات عصيبة توقعت فيها أن أغرق مع الجميع فى بحر من الدماء.. لكن ذلك لم يحدث لحسن الحظ!.. سألت الرئيس المخلوع: هل لعبت الورود التى رفعها ساكاشفيلى ورفاقه دوراً فى خروج الأحداث بشكل سلمى؟.. أجاب: الورود كانت تمثيلية.. لقد حملوا أسلحة أيضاً.. حراسى تعاملوا مع الأمر بحكمة وقاموا بإخلائى ونقلى إلى مقر إقامتى دون إطلاق رصاصة واحدة!.. سألت: هل راهنت على إعلان حالة الطوارئ لحسم الأمور لصالحك؟.. أجاب مبتسماً: (كنت موقناً أن جهات فى الغرب وتحديداً صندوق (سورس) قرروا تكرار السيناريو اليوغسلافى فى جورجيا.. واشنطن أرسلت جيمس بيكر للضغط علىّ.. لقد فكرت فى تبعات ذلك كله وأخبرت زوجتى برغبتى فى الاستقالة قبل شهرين من تصعيد الاحتجاجات.. لقد استقلت كى لا أتسبب فى إراقة دماء، ورفضت طلب بعض الوزراء فى إصدار أوامر لوزيرى الدفاع والداخلية باستخدام القوة.. أعتقد أن القرار كان صائبا حيث وصلت أعداد المحتجين ضدى إلى أرقام كبيرة)!
أحد عشر عاما مضت على (ثورة الورود) جرت خلالها فى نهر السياسة الجورجية مياه كثيرة.. لم يتمكن زعيم الثورة ساكاشفيلى من الوفاء بوعوده.. راهن على جورج سورس، وجورج بوش وتونى بلير ورفاقهم فى بناء واحة الديمقراطية والرخاء، لكنه خسر الرهان.. شاءت الأقدار أن يمتد الأجل بشيفارنادزه ليشهد أفول نجم غريمه ساكاشفيلى المطلوب حالياً أمام القضاء فى قضايا فساد عديدة.. يختلف كثيرون بشأن شيفارنادزه، لكن ثمة إجماعاً على تقدير واحترام قراره بالاستقالة حقناً لدماء أبناء شعبه.. إنه الدرس الذى يعيه من الحكام أولو الألباب وأصحاب الضمائر الوطنية.. فقط!