الأفيون مادة مخدرة بالغة القوة، تُستخرج من نبات الخشخاش، وتُستخدم لصناعة الهيروين. والأفيون هو عقار الهلوسة الطبيعى الأقدم والأشهر تاريخياً. ويُستخدم الأفيون فى التخدير وكمسكن قوى للآلام، لا سيما فى العمليات الجراحية والسرطانات. وبالإضافة إلى تخفيف الأوجاع، يؤثر الأفيون على جهاز الأعصاب المركزى إذ يُؤدى إلى انخفاض التناغم العاطفى والحسى فيها والشعور بالنشوة المصطنعة، وإن كان الواقع المحيط تعساً والمتعاطى شقياً. ومن ثم، يُلحق إدمان الأفيون ضرراً بالغاً بسلامة الإدراك المعرفى، بالسلوك والحالة النفسية على السواء. وإذا كان الأفيون شديد الفاعلية فى تخفيف الأوجاع المزمنة الحادة، فإن المواد المكونة له تحمل فى ثناياها خطر الإدمان، والإدمان يعنى أن الانقطاع عن المخدر يتسبب فى آلام مبرحة بسبب العودة إلى الواقع الأليم وحرمان الجهاز العصبى من المخدر الذى اعتاد عليه.
وعندما قال «ماركس» إن «الدين أفيون الشعب» لم يكن القصد الحط من شأن الدين. كما يتضح من العبارة الأصلية -فى كتاب ماركس «نحو نقد فلسفة الحق الهيجلية»، 1844 - التى تقول: «الدين هو تنهيدة المضطهد، هو قلب عالَمٍ لا قلب له، مثلما هو روح واقع يفتقر إلى روح، إنه أفيون الشعب».
بل يمكن القول إن القصد كان إيضاح أن الشعوب المقهورة تتعاطى، أو يُزيّن لها تعاطى مخدر قوى يغطى على آلام القهر والفقر وعذاباتهما، وإن كان لا يقضى على مصدر تلك الأوجاع، فقط يقضى متعاطيه فترة من الهلوسة التى قد يخبر فيها خيالات تمنحه السعادة الغامرة والقوة الخارقة إلى حين أن يفيق من تأثير الجرعة ويصبح بحاجة ماسة إلى جرعة جديدة من المخدر لتفادى أوجاع الواقع التعس وأعراض الانسحاب (خلو الجهاز العصبى من المادة المخدرة).
وقد دأبت أنظمة الحكم الاستبدادية على تزويد الشعوب بصنف ما أو آخر من «الأفيون» المُخفّف من عذابات الطغيان، حسب توجه النظام وقدراته. فكل نظام حكم استبدادى يفرز أفيونه الذى يكون على شاكلته، ويصرفه للشعب المقهور.
وقد كان للنظم الفاشية باع طويل فى هذا المنحى.
أما فى مصر، فتحت تسلّط اليمين المتأسلم كان التديُّن الشكلى والظاهر لرؤوس الحكم هو الصنف المصروف للناس، للتعمية على المظالم التى كان الشعب يقاسيها، وحتى على الإضرار بمصالحه الوطنية. وقد وجدنا بعضاً من مدعى المشيخة يُزعّق «حسبنا أن رئيسنا يصلى» وكأن أداء أولى الأمر للصلوات فى مواقيتها يشفى من مظالم الاستبداد والفساد التى نهى عنها الخالق عزّ وجل.
والآن نجد الفرح المصنوع والمُصطنع بواسطة آلة إعلام وإعلان عاتية، حتى لا أقول جهنمية، هو صنف الأفيون المصروف للشعب المصرى. فمن المفترض، وإلا اعتبرت قد خرجت عن المسيرة، أن تفرح بأن الوزراء أقسموا اليمين الدستورية فى السابعة صباحاً، والذى رُوّج له وكأنه إنجاز مُعجز، بينما الوزارة بكاملها مثال للإخفاق الشديد فى أداء مهامها. ويكفى مثلاً أن وزارة «الصبح بدرى» هذه قامت على انقطاع الكهرباء والمياه لساعات طوال فى أشد أيام الصيف حرارة.
* الوزارة تذبح الشعب
عشية شهر رمضان المفترض أنه شهر الكرم، أعلنت الوزارة عن زيادات كبيرة فى أسعار مواد الوقود حتى تُخفّض عجز الموازنة حسب توجيهات الرئيس الذى رفض اقتراح الحكومة السابق بموازنة الدولة.
ولا يغيب عن أحد أن رفع أسعار الوقود يُلهب وبسرعة أسعار جميع السلع والخدمات. لأنه حتى إذا لم يتطلب إنتاج السلعة أو الخدمة استهلاك وقود، فإن النقل مكون أساس فى وصول السلعة أو الخدمة إلى المستهلك. ومن ثم، فإن موقف الرئيس والوزارة سيُلهب جميع الأسعار فى مصر خلال أيام قليلة، أى فى بدايات الشهر الفضيل.
ومن أساسيات علم الاقتصاد أن التضخّم، أى الغلاء، يصيب بأشد الضرر ذوى الدخول المحدودة والثابتة نسبياً من كاسبى الأجور والمرتبات، والمعاشات بالطبع. ومن ثم، فإن التضخّم الجامح هو أحد سبل الإفقار الأكيدة للفئات الضعيفة فى المجتمع، خصوصاً مع ضعف آليات الحماية الاجتماعية، مثل شبكات الأمان الاجتماعى، الرسمية والأهلية. وتكاد آليات الحماية الاجتماعية تكون غير موجودة أو فعالة فى مصر، والدليل على ذلك هو تنامى أعداد المتسولين فى الطرق وتدهور أحوالهم حتى أصبح كثرة منهم يستجدون لسد الرمق أو للوفاء بتكاليف رعاية صحية ملحة لهم أو لذويهم.
ظنى أنه لا الرئيس ولا رئيس الوزراء ولا وزراؤه، سيشعرون بأثر مثل هذه التغييرات فى الأسعار على عامة الناس، وإن كانت ضخمة بالنسبة لمحدودى الدخل، ناهيك عن أن يشعروا بضغطها على أحوالهم المالية. فالدولة -أى الشعب- يتكفل بقسط غير قليل من نفقاتهم يزيد كلما ارتفع المنصب، وليست مرتباتهم من الدولة -أى الشعب مرة أخرى- قريبة من حد الكفاف حتى بعد التنازل عن قسم منها. المؤكد إذن أن ميزانية أىٍّ منهم مؤكد لن تتضرر من زيادة سعر مواد الوقود التى تستهلكها سياراتهم التى تقدمها لهم الحكومة مجاناً.
وهناك سبب آخر فنى وبيروقراطى لقلة إحساس الحكام بوطأة غلاء الأسعار على عامة الناس، فلو اعتمدوا على البيانات الرسمية عن معدل غلاء الأسعار، لقال الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء إن معدل الزيادة فى أسعار المستهلك يبقى فى حدود 10% فى السنة فقط. وهو أمر يدعو إلى العجب ويكشف عن عيوب جسيمة فى طريقة تركيب الأرقام القياسية للأسعار، بحيث لا تعبر إطلاقاً عن التغيير فى أسعار السلع الأساسية التى يعتمد عليها سواد الشعب، فى إهمال جسيم لمسألة العدالة الاجتماعية التى كانت واحدة من أهم غايات الثورة الشعبية العظيمة. وقد رصدتُ شخصياً زيادات فى الأسعار تتعدى هذا المستوى الرسمى بكثير، وفى سلع أساسية، فى الشهر الواحد. وإن لم يُرفع السعر اسمياً تُقلل الكمية أو مستوى الجودة مع بقاء السعر على ما هو عليه، مما يساوى رفع السعر، ولكن بسبيل أخبث؛ لذلك فإن جشع التجار وتقاعس الحكومة عن ضبط الأسواق سبب آخر محورى من أسباب الغلاء الفاحش فى مصر.
والأهم أن الحكومة لم توفر جنيهاً واحداً عن طريق ترشيد الإنفاق العام فى الوزارات والهيئات، وغالبيته مسرف وبعضه سفيه، ولا لوضع حد للفساد المتفشى فيها والمدمر لموارد الخزانة العامة، ولو من قبيل ذر الرماد فى العيون. ولكن سارعت لحل أزمة عجز الموازنة من خلال زيادة شقاء المستضعفين والمطحونين، متغافلة عن أن الغلاء فعلاً يقصم ظهور المطحونين، ولأنهم مترفون، على حساب الشعب المسكين.