حضرت عرض مسرحية «اللى بنى مصر»، على المسرح العائم بقيادة الفنان الكبير محمود الجندى، وأهمية المسرحية لا تكمن فى مجرد الترويح عن النفس ولا عرض صور من التاريخ العظيم فقط، رغم أهمية ذلك، ولكن اختيار عرض النموذج الناجح البّناء الذى يقضى على اليأس، ويشيع روح التحدى والعمل الصالح، خصوصاً فى هذه الأوقات الصعبة التى نرى فيها محاولات لحرق مصر، والفرق هائل بين من يحرق أو يحاول أن يحرق، وبين من يبنى أو حتى يفكر فى البناء. عندما أقول الفنان الكبير محمود الجندى وأشير إلى دوره القوى، وفرقته المجيدة فرداً فرداً، فأنا لا أضيف كثيراً ولا قليلاً إلى تاريخه العظيم وقدراته الفنية الواضحة، ولكن الجديد فيما شاهدت، أن هذا الرجل يطرح نماذج تاريخية واقعية أمام الأجيال الجديدة، نماذج شاركت فى بناء مصر اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، رغم صعوبات الاحتلال البريطانى، ووقوع كثير من الشخصيات الكبيرة فى أسره بل وقبضتيه، ونشأة أحزاب سياسية فى حضن ذلك الاستعمار البغيض. هذا البناء الذى بناه طلعت حرب لا يزال قائماً، كما يشارك الفنان محمود الجندى نفسه فى بناء الفن الهادف فى مصر، أهمية ذلك أيضاً تأتى ليقارن الناس بين أسطورة فى البناء وأساطير أخرى فى التجريف والإفناء.
طلعت حرب لمن لا يعرفه، من مواليد 1867 قبل النكسة بمائة عام، وانتقل إلى رحمة الله تعالى فى سنة 1941، أثناء الحرب العالمية الثانية. كانت حياته كلها حرباً على الفقر والجهل والمرض والتخلف والاستهلاك، ومحاولة جادة لبناء مصر حتى وهى تحت الاحتلال إلى أن يزول، وهناك من الحكام من جلب المزيد من الفقر والجهل والمرض والتخلف على شعبه حتى ثار عليه.
كان
طلعت حرب يحلم ويسعى إلى التحرر من الاقتصاد الأجنبى وضغوطه العديدة، فتم له تحقيق الحلم سنة 1920 بعد ثورة 19 العظيمة بعام واحد فبنى بنك مصر، فكانت ثورتين، وكان قد شهد فى شبابه أيضاً الثورة العرابية، كان يحلم بتوطين أسهم الشركات الأجنبية ليملكها مصريون، وهنا أقول لليائسين إذا وُجدت العزيمة والهمة ظهر الطريق، أسس الرجل رحمه الله تعالى وترأس بنك مصر ومجموعة شركاته، ومنها شركة مصر للغزل والنسيج، وشركة مصر للطيران، وشركة مصر للتأمين وشركة مصر للسياحة، واستديو مصر وعشرات من الشركات غيرها، ونال جائزة عظيمة هى قلادة النيل العظمى، اقتصادى عظيم كان عضواً بمجلس الشيوخ، تخرج فى كلية الحقوق، وكان قد حفظ القرآن فى طفولته.
كان محافظاً فى أفكاره، ولذلك خالف قاسم أمين فى بعض آرائه، كانت الوطنية فيه خالصة فكتب سنة 1907 مقالاً جاء فيه: «نطلب الاستقلال العام ونطلب أن تكون مصر للمصريين وهذه أمنية كل مصرى، ولكن ما لنا لا نعمل للوصول إليها؟ وهل يمكننا أن نصل إلى ذلك إلا إذا زاحم طبيبنا الطبيب الأوروبى، ومهندسنا المهندس الأوروبى، والتاجر منا التاجر الأجنبى، والصانع منا الصانع الأوروبى؟
وماذا يكون حالنا ولا (كبريتة) يمكننا صنعها نوقد بها نارنا، ولا إبرة لنخيط بها ملبسنا، ولا (فابريقة) ننسج بها غزلنا، ولا مركب أو سفينة نستحضر عليها ما يلزمنا من البلاد الأجنبية، فما بالنا عن كل ذلك لاهون، ولا نفكر فيما يجب علينا عمله تمهيداً لاستقلالنا إن كنا له حقيقة طالبين وفيه راغبين؟ وأرى البنوك ومحلات التجارة والشركات ملأى بالأجانب، وشبابنا إن لم يستخدموا فى الحكومة لا يبرحون القهاوى والمحلات العامة، وأرى المصرى هنا أبعد ما يكون عن تأسيس شركات زراعية وصناعية وغيرها، وأرى المصرى يقترض المال بالربا ولا يرغب فى تأسيس بنك يفك مضايقته ومضايقة أخيه وقت الحاجة، فالمال هو (أس) كل الأعمال فى هذا العصر وتوأم كل ملك». انتهى كلام الرجل. أقول، كم كان الرجل صائباً فى هذه الكلمات، طلعت حرب يؤكد أن مصر يجب أن تتحرر من كل القيود لتكون خالصة للمصريين، ويريد أن يزاحم المصريون الأوروبيين، طبعاً لم تكن أمريكا ذات شأن آنذاك. دعا المصريين أن يتقدموا كما تقدم غيرهم فى المهن العديدة، وفى الصناعة والتجارة والفن، وينعى على المصريين زهدهم فى إنشاء شركات زراعية وصناعية يحتاج إليها الوطن، كما يشير إلى اقتراض الأموال بالربا وسيطرة البنوك الاستعمارية على أهل مصر.
كم كان ما عرضه الفنان محمود الجندى عظيماً، ليتذكر الناس هذا النموذج بل الأسطورة، وأن يجدّوا فى إحياء هذا التاريخ وهذه الحضارة. مصر فى حاجة إلى عرض وإشاعة هذه النماذج العظيمة حتى لا تتفوق عليها النماذج السلبية التى كثرت فى سنوات ما قبل ثورة يناير العظيمة ولا تزال، ومن هنا جاء القول بأن الوطن الذى لا يزرع ما يأكل، ولا ينتج ما يلبس ولا يصنع ما يحتاج إليه، لا يبنى مستقبله ولا ينتصر فى معاركه الكثيرة، خصوصاً الكبيرة، حتى لو كان الذى يحتاج إليه (الكبريتة) أو (الفابريقة) أو المركب أو طبعاً المال. أقول فى ختام هذا المقال إن الذى يستورد السلاح من عدوه أو صديق عدوه لن ينجح به أبداً فى مواجهة عدوه. وللحديث صلة.
والله الموفق