ما الذى ستفعله إذا قضت محكمة جنايات القاهرة بالبراءة على الرئيس الأسبق مبارك ووزير داخليته حبيب العادلى؟ هذا هو السؤال الذى يواجهنى على ألسنة من أعرفهم ولا أعرفهم أينما ذهبت.. وفى حالات كثيرة تتفرع أسئلة أخرى تدور حول السؤال الأساسى، من بينها: هل ستنزل إلى الشارع للاعتراض على براءة مبارك؟ أو هل ستفرح أم ستحزن فى حالة البراءة؟
وفى كل مرة أتعرض للسؤال لا أندهش أبداً من التوقع الواضح جداً لدى غالبية الناس، بأن حكم محكمة جنايات القاهرة -الذى سيصدر اليوم السبت الموافق 27 سبتمبر 2014- لن يغادر دائرة البراءة، ومصدر عدم الاندهاش هو هذه المساحة الزمنية الكبيرة التى منحتها المحكمة للمتهمين لكى يترافعوا عن أنفسهم، فإذا بالمرافعة تتحول من تفنيد لعناصر الاتهام إلى خطب سياسية وعاطفية، راحت تكيل الاتهامات لثورة 25 يناير 2011، وتقدم أدلة مصورة وأخرى مكتوبة تحاول إثبات أن الثورة كانت محض مؤامرة أمريكية وصهيونية على الوطن العربى كله، وأن الثوار ينتمون إلى كيانات سياسية مأجورة وعميلة، وأن معظمهم كان يتقاضى أموالاً لإغراق مصر فى الفوضى والإرهاب والخراب، ثم جاءت مرافعة مبارك، التى انتظرها الناس على أحر من الجمر، فإذا بنا أمام «رجل» يتجاهل تماماً أنه يقف أمام محكمة، ويتوجه بالخطاب إلى الشعب المصرى، كما لو كان رئيساً ما زال يحكم مصر: «أيها الأخوة.. محمد حسنى مبارك لم يكن يأمر أبداً بقتل المتظاهرين أو إراقة دماء المصريين، وهو الذى أفنى عمره فى الدفاع عن المصريين، وقضى حياته مقاتلاً عن وطنه».. «انتصرت على الإرهاب وأسقطت 27 مليار دولار من ديون مصر.. والاقتصاد بلغ أعلى معدل تنمية فى التاريخ خلال حكمى».. «لم أكن يوماً ساعياً إلى منصب أو سلطة.. حافظت على حرية الرأى والتعبير.. لم أكن يوماً حليفاً متهاوناً فى الحفاظ على السيادة المصرية.. اخترت طواعية التخلى عن مسئوليتى كرئيس للجمهورية عندما تأكد لى أن هدف بعض المتظاهرين هو إسقاط الدولة ومؤسساتها»، إلى آخر ما حفلت به «الخطبة الرئاسية» من إشارات محسوبة بدقة خبيثة، أهمها الإشادة أكثر من مرة بالقوات المسلحة، والإشارة أكثر من مرة إلى الإرهاب، والجماعات المتاجرة بالدين، وما إن انتهت خطبة مبارك حتى بدأت بعض برامج الفضائيات، التى يقدمها مذيعون معروفون بانتمائهم الانتهازى إلى حقبة مبارك، فى تقديم معزوفة رخيصة تشيد بإنجازات مبارك، و«تشيطن» ثورة 25 يناير وثوارها وكل من شارك فيها أو تعاطف معها أو فرح بها.
كان هذا هو المشهد العام الذى دفع غالبية الناس إلى الاعتقاد الراسخ بأن كل ما حدث ليس أكثر من تمهيد الجميع لقبول الحكم ببراءة مبارك.. بل وتشجيع الناس على الخروج يوم الحكم للاحتفال بالبطل الذى أنقذته العدالة من ظلم الثورة والثوار.
والأمر كذلك، ظل السؤال يطاردنى، وكلما استرحت منه إذا بنقاش عابر يعيده إلىَّ، وفى النهاية قررت أن أطرحه على نفسى، وأن أحدد موقفى منه بشكل واضح تماماً: ماذا لو صدر الحكم اليوم فى قضية القرن ببراءة الرئيس الأسبق مبارك ووزير داخليته من تهمة قتل المتظاهرين؟
وإجابتى التى لن أخجل منها فى يوم من الأيام: لن أفرح.. ولن أحزن.. لن أشارك أبداً فى مظاهرة تحتفل بالحكم.. ولا فى مظاهرة ترفض الحكم.. لأن احترام القضاء والحفاظ على هيبته أوجب مليون مرة من انتصار موقف سياسى على موقف آخر، وبراءة ألف مجرم عتيد لأسباب إجرائية خير مليون مرة من إشاعة مناخ عام يتعامل مع أحكام القضاء بمنطق الرفض الشعبى أو القبول الشعبى.. لأن هذا المناخ إذا تركناه يتمدد وينتشر سيؤدى حتماً إلى تقويض هيبة القضاء لتكون الغلبة فى أى قضية من قضايانا لمن يملك القدرة على الحشد والتأثير.. وليس لمن يملك الحق، وتلك هى الوصفة التى لا تخيب أبداً للخراب الشامل.