ما كان الله تعالى ليخلق الخلق ويتركهم حيارى، لا يعلمون ما يصلحهم فى الحياة الدنيا، وما يجعلهم فائزين فى الآخرة.. فقد أرسل إليهم الأنبياء والرسل الكرام ليدلوهم ويرشدوهم إلى طريق الحق والصواب.. أعطاهم حرية الاختيار، إما الإيمان وإما الكفر.. إما الهدى وإما الضلال.. يقول تعالى: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (الكهف: ٢٩).. أسمى وأعظم معانى الحرية.. حرية العقيدة.. ومع ذلك، فهو سبحانه لا يمنع إنساناً -مؤمناً أو كافراً- من عطائه «كُلّاً نُّمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً» (الإسراء: ٢٠).
فى مقدمة هؤلاء الأنبياء والرسل العظام، أبوالأنبياء «إبراهيم».. خليل الرحمن.. يقول جل وعلا: «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا » (النساء: ١٢٥).. أى «صفياً»، اصطفاه لمحبته وخلته.. قال «ابن كثير»: «فإنه انتهى إلى درجة الخلة التى هى أرفع مقامات المحبة، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه».. سلام عليك فى الخالدين يا «إبراهيم».. لقد امتحن الله تعالى قدرتك على تحمل أعباء النبوة والرسالة، فكنت لها أهلاً، يقول تعالى: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ».. نجح فى الاختبار.. فاز بأعلى الدرجات، فمنحه الله «الإمامة»، أى قدوة للناس ومنار يهتدى بك الخلق، «قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا»، غير أن «الخليل» طمح فيما هو أكثر من ذلك، أن تكون الإمامة فى عقبه «قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى».. فأجاب الحق جل وعلا: « لَا يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ» (البقرة: ١٢٤).. إن الإمامة ليست مطلقة هكذا.. وإنما يمنحها الله تعالى لمن يستحقها، ومن هو قادر على السير بها والوصول بها إلى غاياتها ومراميها.. أما هؤلاء الذين ركنوا إلى الدنيا، وتنكبوا الطريق، فلا إمامة لهم.
سافر ملايين الحجيج لأداء فريضة الحج، تلبية لدعوة الخليل إبراهيم.. يشير إلى ذلك المولى: «رَّبَّنَا إِنِّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ» (إبراهيم: ٣٧).. ومن هناك تهب علينا نسائم «الخليل» -أبوالأنبياء إبراهيم- رطبة ندية، فتنعش أفئدتنا وتقوى عزائمنا وتشحذ هممنا، ومن قبل ذلك وبعده تصعد بنا إلى أعلى درجات الإيمان واليقين.. لقد وقف «الخليل» بكل الشموخ أمام أعتى الفراعين وأقوى الطغاة، لا يطرف له جفن ولا يرتعش له فؤاد.. يعرض دعوته ورسالته بكل ثبات ويقين، ويقيم حجة العقل والمنطق والمشاهدة العملية، فتتهاوى دعاوى المبطلين وتبهت حجج الكافرين.. انظر إليه وهو يخاطب «النمرود»: «رَبِّىَ الَّذِى يُحْيِى وَيُمِيتُ»، فيرد الأخير وهو جالس على عرشه منتفخاً مزهواً: «أَنَا أُحْيِى وَأُمِيتُ».. فيقول «الخليل»: «فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ».. لم يستطع «النمرود» رداً.. فقد القدرة على الإجابة.. بحث عنها فلم يجدها.. حقاً، ماذا يقول؟ لقد أعيته الحيلة.. وبدت عيناه زائغتين.. إنه لأول مرة يقف عاجزاً، مبهوتاً، مذهولاً، مطاطئ الرأس.. «فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ» (البقرة: ٢٥٨).
ولأن الخليل إبراهيم يريد أن يزداد يقيناً وإيماناً واطمئناناً، فقد وجدناه يسأل ربه: «رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْيِى الْمَوْتَى».. فيرد عليه المولى بسؤال، لكن فى ود وحنو: «أَوَلَمْ تُؤْمِن».. سارع «الخليل» إلى الإجابة دون تردد: «بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى» (البقرة: ٢٦٠).. إنها القضية التى تمثل أصلاً من أصول الإيمان، وهو الإيمان باليوم الآخر والبعث والنشور، والتى يزخر بها القرآن فى كثير من آياته.. تأمل ما جاء فى سورة يس (الآيتين: ٧٨ و٧٩)، رداً على من جاء إلى النبى، صلى الله عليه وسلم ،وبين أصابعه عظام نخرة، ففركها فتحولت إلى تراب، وهو يقول: «أتزعم يا محمد أن ربك قادر على أن يعيد هذه إلى الحياة مرة أخرى؟»، يصف الحق جل وعلا هذا الموقف، فيقول: «وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِى الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ». إن هناك فارقاً كبيراً بين الموقفين، بين من يسأل ليزداد يقيناً، ومن يسأل ليشكك فى قدرة المولى تعالى على البعث.
لقد روى لنا القرآن حكايات ومواقف كثيرة عن الخليل إبراهيم.. هى ليست للتلهى أو التسلى، وإنما للدرس والعظة والعبرة.. لقد كان «الخليل» مثالاً فى الإيمان والصدق واليقين والثقة فيما عند الله.. لم يفقد إيمانه ويقينه فى أى لحظة من اللحظات.. لم يهتز يوماً فى محنة أو شدة مهما علت درجتها، بل يكون ساعتها أقرب إلى الله، فيكون الفرج.. فى حياتنا العادية تواجهنا أحياناً عقبات ومصاعب كثيرة، لا ينفع معها إلا الصبر الجميل، أى الصبر الذى لا جزع معه.. إلا اللجوء إلى الله والركون إلى جنبه والاحتماء به والرضا بقضائه، أسأل الله لى ولكم العافية فى الدنيا والعفو فى الآخرة، وكل عام وأنتم بخير.