لو سئلت كيف أوصف المشهد السياسى المصرى فى الوقت الراهن لأجبت على الفور إنه انقلاب على القيم الديمقراطية!
وهذا الانقلاب تشارك فيه -للأسف الشديد- كافة التيارات السياسية بلا استثناء!
وقد سبق لنا فى كتب سابقة (راجع كتابنا «إعادة اختراع السياسة: من الحداثة إلى العولمة»، القاهرة، ميريت 2006) أن فرقنا تفرقة واضحة بين آليات الديمقراطية وقيم الديمقراطية. ولعل أبرز آليات الديمقراطية هى إجراء الانتخابات الدورية النزيهة، سواء كانت نيابية أو رئاسية.
وهذه الانتخابات -وفق النظرية الديمقراطية المعاصرة- من المفروض أنها تعبر تعبيراً صادقاً عن الإرادة الشعبية، ما دام قد أتيح لكل التيارات السياسية أن تنزل إلى ساحة الانتخابات، وتعرض برامجها ومرشحيها على الجماهير الذين من المفروض نظرياً أنهم سيختارون ممثليهم اختياراً حراً رشيداً.
غير أن الممارسة قد تحد من سلامة هذا المبدأ الديمقراطى الهام، وخصوصاً فى البلاد النامية حيث تسود الأمية ويشيع الفقر.
سيادة الأمية، التى تبلغ فى مجتمعنا حوالى 40%، معناها تدنى الوعى الاجتماعى الجماهيرى، وعدم القدرة على الاختيار العقلانى بين برامج الأحزاب السياسية المختلفة، والتى قد تتراوح بين أقصى اليمين وأقصى اليسار مروراً بالوسط. بالإضافة إلى أن تدنى المستوى الاجتماعى مما يسمح عادة للتيارات الدينية أن تزيف الوعى الجماهيرى عن طريق استخدام شعارات دينية جذابة مثل «الإسلام هو الحل» وغيره.
كما أن انتشار الفقر قد يسهل عملية الرشاوى الانتخابية التى عادة ما تأخذ أشكالاً متعددة عينية أو نقدية.
وهذه الممارسات المنحرفة من شأنها أن تلقى بالشكوك العميقة حول صلاحية الديمقراطية التمثيلية على الطريقة الغربية فى التعبير الحقيقى عن إرادة الجماهير.
ولكن لو نحينا جانباً هذه الاعتراضات التقليدية عن مثالب تطبيق الديمقراطية الغربية فى البلاد النامية، فإن آليات الديمقراطية، مهما بلغت النزاهة والشفافية فى تطبيقها، لا تغنى عن الأهمية القصوى لاحترام قيم الديمقراطية.
ولعل أهم هذه القيم على الإطلاق الاحترام المطلق لمبدأ تداول السلطة، بمعنى أن حزباً سياسياً ما لو حصل على الأغلبية فى الانتخابات عليه أن يخلى مقاعد السلطة طوعاً وبدون إبطاء لو خسر الانتخابات فى المرة القادمة، ويتحول إلى المعارضة.
غير أنه بالإضافة إلى مبدأ تداول السلطة، فإن من قيم الديمقراطية عدم النزوع إلى الاستحواذ على مجمل الفضاء السياسى، سواء تم ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
بعبارة أخرى الاحتكار السياسى لحزب ما ضد قيم الديمقراطية التى تؤمن بالتعددية والتنوع. كما أنه من قيم الديمقراطية الحوار والتفاهم السياسى، وعدم اللجوء إلى أساليب غير ديمقراطية فى مجال المعارضة. لأن الأسلوب الأمثل للمعارضة بالإضافة إلى ممارسة النقد السياسى المسئول للحزب الحاكم، هو التنافس فى الانتخابات الدورية، ومحاولة إسقاط الحزب الحاكم أو رئيس الجمهورية عبر صناديق الانتخابات.
فى ضوء هذه المقدمات جميعاً يمكن القول إن التيارات السياسية المصرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار قامت بانقلابات متعددة على الديمقراطية منذ ثورة 25 يناير حتى الآن.
ولسنا فى حاجة إلى التدليل على أن جماعة الإخوان المسلمين عن طريق حزبها السياسى وهو «الحرية والعدالة» مارست بطريقة منهجية طريق «المغالبة لا المشاركة»، بعد أن حصلت هى وحزب النور السلفى على الأكثرية فى مجلسى الشعب والشورى.
ولعل أول انقلاب إخوانى صريح على الديمقراطية تمثل فى احتكار تشكيل اللجنة التأسيسية للدستور التى أبطلتها محكمة القضاء الإدارى، وإصرار الجماعة العنيد على إعادة تشكيل اللجنة بنفس العوار الدستورى الذى لحق باللجنة الأولى، مما يجعلها غير ممثلة لأطياف الشعب المصرى المختلفة.
وأخطر من ذلك كله أن هذا التشكيل المعيب للجنة من شأنه أن يخرج دستوراً مشوهاً مصبوغاً بصبغة دينية، لا تعبر عن اتجاهات الشعب المصرى الحقيقية.
ومما يثير الريبة إصرار الجماعة على الإسراع فى الانتهاء من صياغة الدستور وطرحه بأسرع سرعة ممكنة على الاستفتاء، حتى إذا جاءت استجابة الغالبية بنعم يفرض الدستور فرضاً على الشعب المصرى، بزعم أنه استوفى الإجراءات الديموقراطية الشكلية.
غير أن بعض التيارات الثورية لم تبرأ من ممارسة خطيئة الانقلاب على القيم الديموقراطية، ولعل أبرز أمثلتها المظاهرة التى دعا لها «أبو حمد» النائب السابق وشعارها إسقاط الرئيس «مرسى». هذه ممارسة ضد قيم الديموقراطية لأن إسقاط رئيس الجمهورية أو حكم الإخوان المسلمين لا يكون بالمظاهرات الغوغائية ولكن من خلال صندوق الانتخابات القادمة.
وأخيراً يمكن القول أن بعض التيارات الليبرالية فى إطلاقها الدعوة لشرعية المظاهرات أياً كان موضوعها حتى لو أدت إلى عدم الاستقرار الاجتماعى، أو شرعية الاعتصامات حتى لو أدت إلى قطع الطريق وإيقاف عملية الإنتاج، تعد فى الواقع انقلاباً على القيم الديموقراطية.
وهكذا يمكن القول أن الارتباك السياسى السائد، والفوضى العارمة التى تعبر عنها عشرات المظاهرات السياسية والمظاهرات الاحتجاجية والمطالبات الفئوية التى تسيطر عليها المزايدات، كلها نتيجة الانقلاب على قيم الديموقراطية.
وليس هناك حل سوى أن تلجأ كل الأحزاب السياسية والتيارات الثورية بلا استثناء إلى ممارسة النقد الذاتى، سعياً وراء تأسيس ديموقراطية حقيقية معبرة عن طموحات وإرادة الشعب.