وصلنى العدد الأخير من مجلة «الدستورية» (العدد الثانى والعشرين الصادر فى شهر أكتوبر 2012) التى تصدر دورياً عن المحكمة الدستورية العليا. ووجدت العدد حافلاً بالدراسات البالغة الأهمية التى كتبها مجموعة متميزة من قضاة المحكمة البارزين.
وهى دراسات ترقى فى عمق تحليلها القانونى إلى ذرى شموخ القضاء الدستورى فى مصر، الذى كان منذ نشأته حارساً للدستورية، ورقيباً على سلطات الدولة، بدءاً من رئيس الجمهورية ذاته.
وباعتبارى حقوقياً فقد تابعت بدقة نشأة مجلس الدولة الذى أسهم إسهاماً جوهرياً فى تأسيسه وتقنين أوضاعه الفقيه القانونى العظيم الدكتور «عبدالرازق السنهورى باشا»، الذى وضع التقنين المدنى الجديد بعبقرية فذة، وجاء نموذجاً رفيعاً للكتابة القانونية فى الشكل وفى المضمون. أنشئ مجلس الدولة على غرار مجلس الدولة الفرنسى وتأثر فى بداياته الأولى بالخبرة القضائية الفرنسية، ولكنه سرعان ما انتقل إلى طور الإبداع القانونى، فابتكر نظريات جديدة، وأسس فقهاً إدارياً مستحدثاً فاق فى بعض الأحيان الفقه الفرنسى.
إنشاء مجلس الدولة المصرى كان إبداعاً فى مجال إنشاء مؤسسة قضائية جديدة وفريدة للرقابة على شرعية القرارات الإدارية، تماماً مثلما كان إنشاء المحكمة الدستورية العليا عام 1969 بالقانون رقم 81 لسنة 1969 إبداعاً دستورياً غير مسبوق. فقد أناط القانون بها وحدها الرقابة على دستورية القوانين، كما نص على وجوب نشر الأحكام الصادرة منها فى الجريدة الرسمية، ثم صدر قانون الإجراءات والرسوم أمام المحكمة العليا بالقانون رقم 66 لسنة 1970 ونص على أن تكون أحكامها ملزمة لجميع جهات القضاء. (انظر افتتاحية العدد) وعنوانها الدال «لم تكن يوماً صنيعة لأحد ولن تكون» للقاضى الجليل المستشار «ماهر البحيرى» رئيس المحكمة الدستورية العليا.
والمقال دفاع مجيد عن المحكمة الدستورية، ونفى قاطع للاتهامات الجائرة التى وجهها لها بعض الذين لم يرضوا عن أحكامها القاطعة، وعلى الأخص الحكم الخاص ببطلان مجلس الشعب، نظراً للعوار الدستورى الذى اعتور قانون الانتخابات السياسية، ونجد مقالة هامة للمستشار «ماهر سامى» نائب رئيس المحكمة وعنوانها «دستور الثورة فى ميزان التاريخ»، ونجد فيها فقرة بالغة الأهمية تذهب إلى أن ثورة يناير المجيدة التى فجرها الشباب قد تحولت بعد أيام قليلة إلى ثورة الشعب كله، ومن ثم فلا يمكن أن يدعى أحد يوماً أنها كانت ثورة حزب بذاته أو جماعة بعينها. ولا تخفى أهمية هذا الحكم القاطع ودلالاته السياسية. وبعد ذلك ينقلنا الدكتور «سامى جمال الدين» أستاذ القانون الإدارى والدستورى بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية إلى الموضوع المثير للجدل السياسى العنيف الآن، وهو عن الشريعة الإسلامية وهل هى مصدر رسمى للقانون أم مصدر موضوعى للتشريع؟ قراءة فى نص المادة الثانية من الدستور.
ويثير الدكتور «فتحى فكرى» أستاذ القانون العام بكلية الحقوق جامعة القاهرة القضية التى تملأ الدنيا وتشغل الناس، وهى «جواز الارتداد عن الشرعية الدستورية إلى الشرعية الثورية: دراسة حالة للثورة المصرية». وتجىء بعد ذلك مقالة المستشار الدكتور «عماد البشرى» عضو هيئة المفوضين بالمحكمة بعنوان «نظرة فى النظام الدستورى المصرى الحديث» وهى دراسة شاملة تستحق من الذين يفتون فى المسائل الدستورية بغير علم أن يقرأوها ويتعلموا منها.
وتأتى أخيراً مقالة هامة للمستشار الدكتور «تامر ريمون» عضو هيئة المفوضين عن «الضمانات الدستورية لحماية الاستثمار».
وتضم المجلة ملفاً قضائياً هاماً يتضمن نصوص عدد من أبرز أحكام المحكمة الدستورية العليا، وخاصة حكمها الخاص ببطلان مجلس الشعب. أردت من هذا العرض السريع أن ألفت نظر أعضاء النخب السياسية المتصارعة إلى أهمية الاطلاع على مجلة «الدستورية»، بما تتضمنه من دراسات هامة حتى يكون الحوار السياسى مستنداً إلى معرفة دقيقة بالقانون الدستورى من ناحية، وبأحكام المحكمة الدستورية العليا القاطعة، التى لا مجال للاختلاف حولها من ناحية أخرى.