كنت على وشك الخروج التام -فى كل ما أكتب- من مستنقع الحالة السياسية الراهنة فى مصر، بعد أن تحول إلى ضجيج ينضح روائح كريهة، ويثير سحابات كثيفة من الأتربة التى تحجب الرؤية وتشوش البصيرة، ومنذ شهور وأنا أتأمل ما يحدث فى مصر، على ضوء ما يحدث فى العراق وليبيا وسوريا واليمن والسودان، ويكاد قلبى ينخلع من فرط وضوح الكارثة التى تتقلب موجاتها مثل إعصار هادر، يدمر كل شىء فى طريقه: الدول والحكومات والجيوش والمؤسسات والبيوت.. ولكنه بقدرة قادر لا يقترب أبداً من آبار النفط ولا من مصافى تكرير النفط، ولا من أنابيب ضخ النفط إلى الموانئ.. حيث تحملها البوارج إلى أوروبا وأمريكا!، ولا أعرف كيف لم ننتبه الانتباه المطلوب إلى أن كل شىء فى الوطن العربى قد شمله التدمير منذ ظهور الجيوش الإرهابية الجوالة.. إلا النفط، وكل السلع تضاعفت أسعارها عدة مرات، باستثناء النفط الذى انهارت أسعاره من 110 دولارات للبرميل إلى أسعار تتراوح الآن بين 60 و70 دولاراً للبرميل.
ومنذ أسابيع وأنا أفكر فى حالة بلد كبير وشديد الأهمية مثل سوريا.. كان جيشها النظامى على وشك حسم معاركه مع الجيوش والميليشيات الإرهابية المجرمة والعميلة، وإذا بالجيش النظامى السورى يتراجع بمجرد أن أعلنت أمريكا عن إنشاء تحالف مقاومة الإرهاب، وراحت طائرات الحلفاء تجوب سماوات بلاد الرافدين فى سوريا والعراق، لنكتشف أننا أمام سيناريو تكرر مرات فى منطقتنا الموبوءة بأنظمة لا ترى أبعد من مواطئ أقدامها.. فها هى أمريكا تتظاهر بأنها تضرب الإرهاب، وهى فى الحقيقة لا تضرب غير قدرات الدول العربية على مقاومة الإرهاب.
كنت أفكر فى كل ما يدور فى مصر من ضجيج سياسى تافه، ومن فساد ممنهج فى معظم الوزارات الخدمية، تقوده أطراف تبدو فى الظاهر متناقضة ولكنها فى الواقع تعمل على تحقيق هدف واحد: هو تمهيد التربة المصرية لحالة من الغضب الشعبى الواسع، يختلط فيه احتجاج المواطنين العاديين الذين ضجوا من الغلاء الفاحش ومن الفساد الكارثى فى معظم الوزارات الخدمية، مع مؤامرات جماعة الإخوان الإرهابية، وهو الأمر الذى سيؤدى حتماً إلى استنفاد جزء كبير من طاقة القوات المسلحة فى الجبهة الداخلية، وإفساح المجال للجيوش الكافرة الجوالة فى المنطقة على الجبهات الحدودية.. وساعتها ستصبح مصر قاب قوس واحد من اللحاق بالحالة الليبية والسورية والعراقية.
نعم، هذا هو الملف الذى كنت أحتشد له، عندما فوجئت مثل آخرين بتصريح الرئيس عبدالفتاح السيسى حول إعداد مشروع قانون يجرم إهانة ثورتى 25 يناير و30 يونيو، وهو المشروع الذى فكَّر فيه الرئيس تحت ضغط حالة «الفرح الحرام» التى انتابت جواسيس أمن الدولة فى الإعلام بعد حكم تبرئة «مبارك» وأدت هذه الأفراح الآثمة إلى تصاعد الغضب لدى أهالى شهداء ومصابى ثورة 25 يناير ولدى طيف واسع من المواطنين شاركوا فى صُنع هذه الثورة، كراهية فى نظام حكم «مبارك»، ومقتاً واحتقاراً لزبانية وزارة الداخلية الذين حطموا كرامة المواطنين وأهانوا كبرياء أمة عريقة، قبل أن يهبَّ الشعب كله فى ثورة غضب عارمة أطاحت بهذا النظام الكريه الفاسد.
وعلى الرغم من أننى واحد ضمن ملايين تمنوا هذه الثورة، وواحد ضمن آلاف كانوا على خط النار لحظة اندلاعها، وأشعر بالتقزز كلما طالعنى مذيع من عينة أحمد موسى يشتم كل من شارك فى هذه الثورة، باجتراء فاحش، فإننى شهراً بعد شهر، وعاماً بعد عام، تراكمت بداخلى دلائل مؤكدة على أن ثورات ما سميناه «الربيع العربى»، ومن بينها ثورة 25 يناير، لم تكن من صنع شعوب هذه المنطقة، وأننا كنا مدفوعين دون أن ندرى بأيادٍ خفية قابضة على كل الأدوات عرفت كيف تستثمر رغبتنا الحارقة فى الإطاحة بهذه النظم الكسيحة والفاسدة، وأجادت تحريك أدواتها من العملاء والخونة ومحترفى عقد الصفقات، حتى دخلنا فى متاهة رهيبة لا يلوح فيها طريق آمن للخروج.. وإذا بنا فى غياهب المتاهة نصحو على «داعش» وغيرها من الميليشيات المسلحة الكافرة، تشعل الحرائق فى أوطاننا وتحطم وحدتنا وتقضى تماماً على أى إمكانية لاستثمار مواردنا.. فيما نحن مشغولون حتى النخاع بالتناحر وإرهاق المحاكم بقضايا جديدة من نوع: جرائم إهانة الثورة!
سيدى الرئيس.. هل هناك سابقة فى أى مكان فى العالم لمثل هذا القانون؟ وهل يليق بأمة على شفا كارثة أن تصادر الحق فى البحث والتحرى حول حقيقة هذه الثورات، أو أن تنشغل بمحاكمة مواطن بات مقتنعاً أشد الاقتناع بأن هذه الثورات هى «رجم من عمل الشيطان الرأسمالى المتوحش»؟