«جزيرة أبوصالح».. «العطش» على ضفاف النيل
قبل نحو 50 عاماً انزاحت من على أطرافها المياه، لتأخذ شكلاً جديداً يخالف اسمها، أُضيفت إلى أرضها تربة جديدة تختلف عن تربتها فى اللون والخصوبة، أصبح هناك أرض جديدة، و«عِرض» جديد يهب الفلاح حياته للدفاع عنه والقتال من أجله ضد أىٍّ من كان، حتى لو «الحكومة»، ولتبدأ القصة منذ ذلك الحين.. جزيرة «أبوصالح» فى شرق النيل على الأطراف الصحراوية لمحافظة بنى سويف، تنبسط أرضها الخضراء، وتقل خَضَاراً كلما اقتربت من الخط الأزرق الفاتح الذى يشق مصر من جنوبها إلى شمالها، والذى يعرفه الناس هناك باسم «البحر»، ولا يعترفون بتسمية «النيل»، تنتشر الأبنية قليلة الارتفاع التى لا تتعدى 10 أمتار كحد أقصى، بينما تنتشر البنايات البدائية «اللبنية» على أطراف الزراعات أو فى منتصفها أحياناً.
الحاجة فتحية وزوجة نجلها داخل إحدى الغرف المهددة بالسقوط
بخمارها الرمادى المعلق على رأسها والواصل إلى نصف جسدها فوق جلباب فلاحى يميل إلى اللون الذهبى، تشير «فوزية فتحى» التى شَارفت على العقد السادس من عمرها، إلى شروخ عميقة أصابت جدار منزلها البسيط.. أحجار جيرية كبيرة تتراص فوق بعضها البعض لتشكل بناية بدائية، وبينما تزن الواحدة منها 20 كيلوجراماً تقريباً وتحتاج إلى لصقها بالخرسانة المسلحة، إلا أن حفنة من الطين اللزج تتولى المهمة، مهددة بذلك من يختبئون داخل المنزل، بالموت، حال التعرّض لأى هزة أرضية أو حتى من دون اهتزاز: «البيت بيقع حتة حتة، وأنا باجرى أجيب أسمنت ولّا طين أسد بيه الكسر، واللى بيخش بيتى بيتخض منه، ربنا يسترها علينا ومايتهدش فوق دماغنا»، يعود بناء منزل فوزية إلى قرن من الزمان تقريباً، كما تروى، تجاهد كل بضعة أيام بقليل من الأسمنت من أجل الحفاظ على ثباته، وما تبقّى من قوة انتصاب جدرانه، أملاً فى أن يأوى المنزل نجلها وأحفادها من بعدها. تقول «فتحية» إن نجلها اضطر إلى بناء غرفتين إضافيتين خلف منزلها البدائى، ليتزوّج فيهما بعدما فشل فى الحصول على منزل جديد، وإن فقر العيش والبطالة، حالا دون حصوله على منزل أو شقة بالإيجار، فعمله سائق أجرة أو عامل بناء يحول دون دخل ثابت يمكنه الاعتماد عليه لسد رمق زوجته وأولاده قبل رمقه: «آدينى قاعدة فى البيت معرشاه بشوية جريد، وآدينا بنتأذى من المطر كل شتا، بس الحمد لله على كل حال».[FirstQuote]
الفقر عاق أن يكون هناك طوابق عدة داخل الجزيرة، فأمام باب إحدى البنايات ذات الارتفاع المنخفض، يقف بدوى حسين مرتدياً معطفه البنى ليُغطى النصف الأعلى من جلبابه الأزرق، يُعلق عينيه فى السماء قليلاً، ليستحضر ما يتوافر فى ذهنه من محصول كلمات قد يستطيع بها وصف قريته البائسة، يتحدث فى البداية عن تسمية القرية، وكيف أنها فى حاجة إلى اسم آخر بدلاً مما هى عليه، فبداهات علم الجغرافيا تعترض على تسميتها بـ«الجزيرة»، حيث لا تحدّها المياه من جميع الجوانب: «كانت جزيرة لأن المياه كانت تحدّها من كل ناحية، لكن بعد بناء السد العالى انحسرت المياه وتغير شكلها». انحسار المياه وظهور تربة رملية على أطراف القرية، بجانب رشح الأملاح من الجبال المحيطة على الزراعات، دفع عدداً من أبناء القرية إلى العمل بمصانع الأسمنت والحديد التى شُيدت حديثاً، وقُدّر له أن يكون من بينهم، لكن محنته لم تنتهِ، بدأت مع أصحاب المصانع: «الواحد بيطلع الصبح ويشتغل من الساعة 8 لحد بعد المغرب ويرجع فى الآخر بـ40 جنيه، وممكن يتخصم منهم، واليوم الإجازة إحنا اللى بنشيله»، فبالرغم من أن يوم العمل قد تدفعه الشركة له 120 جنيهاً، إلا أن المبلغ يتقلص إلى الثلث نتيجة المقاولات وعمولات المقاولين، حسب قوله، مشيراً إلى أن القرية زراعية و85% من أبنائها يعملون بالزراعة رغم الصعوبات التى تواجههم من نقص المياه وارتفاع إيجارها، إلا أن الـ15٪ الآخرين يعتمدون على مصنعين للأسمنت هما مصنع جنوب الوادى ومصنع وادى النيل، ومصنع للحديد تحت الإنشاء.
فلاح يمسك حفنة رمال مالحة فى أرضه
يخطف الحديث صديقه أحمد أبوالفتح، 26 عاماً، عامل بأحد مصانع الأسمنت، راوياً ما تعانيه القرية من فقر مدقع وإهمال صحى وتعليمى: «المستشفى العام بالقرية بدون أطباء، ومانعرفش ليه المكان فاضى ومهجور، وآهو 4 أدوار كاملين بأجهزة مركونة»، وفق رأيه فإن وقوع القرية فى طرف المحافظة مع قلة رواتب الأطباء هو ما يعوق عمل الأطباء بالمستشفى، مما تسبب فى أن يتكبّد أبناء القرية أموالاً لا يطيقون تحمّلها حال مرضهم، فالسيارة التى تقل المريض ورفيقه تحتاج إلى 60 جنيهاً لإيصالهم إلى بنى سويف، إضافة إلى 40 جنيهاً أخرى ثمن كشف الطبيب، بخلاف تكاليف الأدوية التى يحتاجها، ومثل تلك النفقات إن احتاج المريض للمتابعة أو الاستشارة: «المستشفى ده اتعمل من 6 سنوات والله ما كشفت فيه مرة واحدة، لأن كل أما أروح ما ألاقيش دكتور».[SecondQuote]
عدة أمتار تفصل بين منزل أميرة مرسى، والساحة المقابلة له، تقطعها كأنها عدة أميال، فى الساحة تجلس العجوز التى لا تتذكر عمرها، ويحيط بها الأطفال من أحفادها وأبناء القرية، تروى لـ«الوطن» ما جدّ على القرية منذ 50 عاماً، هى عمر حياتها بالقرية، وتشير بيدها المغطاة بالجلد المتشقق من تقدّم السن، تجاه المستشفى المغلق: «ده اللى جد على البلد، وآهو عطلان، والأرض اللى كنا بنأجرها من الحكومة بـ15 جنيه، وكنا بندفعها بالعافية دلوقتى بقت بـ300 جنيه»، ترى العجوز أن أرض القرية من المفترض أن تسلّم إلى أبنائها، إلا أن الحكومة تتعنّت فى تسليمهم الأرض، رغم استصلاحها واستزراعها على مدار عقود عدة، تولى خلالها فلاحو القرية مهمة استزراع أرض رملية بور، فشلت الحكومة نفسها فى زراعتها: «الأرض دى أرض حكومة، اللى بيزرعها مأجرها منهم، وبيجى الصرّيف يلم المال من الفلاحين، ربنا يسهل ويملّكوها لنا بقى».
الابتسامة على وجوه أطفال «أبوصالح» رغم قسوة الأوضاع
تستكمل «أميرة» حديثها: «سمعت إن الصرّيف هياخد 4 آلاف جنيه، يا ابنى ده يبقى خراب بيوت، دى القرية كلها مأجرة من الصرّيف»، مشيرة إلى أن قرى أخرى تملّكت أراضى كانت تؤجرها من الدولة عدا قريتها، مستنكرة حالة الفقر التى لازمت القرية منذ أن حضرت إليها فى ستينات القرن الماضى، مطالبة الحكومة بمساعدة القرية وفتح المستشفى لعلاجها وبقية أهل القرية.
إلى جوار العجوز تتربع على عتبة أمام منزلها حسنية أبوبكر، 65 عاماً، تحتضن حفيدها «على» ابن العام ونصف العام، ليس بإمكان «على» أن يلهو مع الأطفال لإصابته بكسر فى ذراعه، ورغم الأمتار القليلة التى تفصل بين منزله ومستشفى القرية، فإن جدته حملته إلى بنى سويف ليتلقى الإسعافات على بُعد أكثر من 30 كيلومتراً: «لما الواد وقع جرينا على المستشفى لاقيناه فاضى، مافيهوش دكاترة ولا إسعافات، فخدته وطلعت على بنى سويف»، تقول «حسنية» إنها أنفقت على علاج حفيدها 190 جنيهاً من معاش 285 جنيهاً تتقاضاها كل شهر، تحاول بها أن تسد رمقها، وإذا ضاقت الأمور تضطر إلى الحصول على الطعام «شُكك» من صديقتها بائعة الخضار، وتضطر أحياناً إلى مساعدة نجلها العامل باليومية، الذى لا يكاد يعمل إلا بضعة أيام كل شهر. تضيف «حسنية» قائلة إنها أصيبت بجلطة وزيادة فى سرعة ضربات القلب، وكتب لها أحد المستشفيات فى بنى سويف على أدوية بلغ ثمنها 120 جنيهاً شهرياً، ولعجزها عن توفير المبلغ كل شهر لجأت إلى العلاج على نفقة الدولة، وخلال الإجراءات أخطأ الأطباء فى كتابة الأدوية وتناولت أدوية غير صحيحة فساءت حالتها، حتى عادت من جديد إلى العلاج الخاص الذى يثقل كاهلها كل شهر، كما طالبت بتوصيل الصرف الصحى للقرية لتهديد البيارات المنازل بالسقوط، لافتة إلى أنها ولدت وعاشت فى القرية وحتى الآن لم تلحظ أى تطورات فى القرية، وأنها تنتظر مد الصرف الصحى لحماية البيوت العائمة على البيارات من السقوط: «حتى المدرسة متهددة إنها تقع على ولادنا، وأبويا من زمان كان فيها، ولما كانت هتقع رمموها وبنوا فصلين زيادة ودلوقتى أهى شكلها هتقع تانى».
وبينما تنحدر الأرض للأسفل فى الطريق إلى ضفاف النيل، تتعثر الأقدام فى رمال غامقة اللون تنمو فيها حشائش يسمونها «هيش»، لا تدل إلا على موت الأرض وبوارها، بين كل ذلك يقف معوض محمود الزناتى، أحد أبناء القرية من صغار الفلاحين، يرمى نظراته هنا وهناك يتابع الحشائش الصحراوية التى تنمو يوماً بعد يوم، وتستمد غذاءها من الأملاح التى ترشح من الأراضى والجبال المرتفعة، يتحدث بصوت جهورى: «دى الأرض اللى عايزين يدفعونا فيها 4 آلاف جنيه للفدان، دى أرض حمض، متجيبش 400 جنيه»، فبحسب «الزناتى» فإن الدولة قامت بتأجير الأرض لفلاحى القرية بعد أن فشلت فى زراعتها بمعداتها الكبيرة، مشيراً إلى أنه باع أملاك أبيه التى ورثها وكانت فداناً فى غرب البحر وحصل على فدانين فى القرية منذ 28 عاماً، ولكنه تكبد الكثير من الأموال لتمهيدها واستزراعها، وما زال ينفق المزيد للحفاظ عليها، إذ يخسر من زراعتها وفق التسعيرة الإيجارية القديمة 480 جنيهاً للفدان، غير أنه يقول إن الوضع لا يحتمل زيادة جنيه واحد، وليس 4 آلاف. «دى أرضى يعنى عرضى، لو سبتها هيتقال معوض ساب أرضه وعرضه»، يبرر «معوض» أسباب تمسكه بالأرض، مستنكراً الزيادة التى فرضتها الهيئة الهندسية للإنشاء والتعمير، التى بلغت أكثر من 8 أضعاف، قائلاً: «كنا بندفع 480 جنيه و40 جنيه مصاريف إدارية، يعنى 520 جنيه للفدان، ومكناش بنقدر ندفعهم، عايزين يدفعونا 4 آلاف إزاى؟!»، يسخر «معوض» من التهديد بالحبس لمن يعجز عن تسديد الإيجارات بقوله: «عايزين يحبسونا، طب ما يحبوسنا، ده إحنا أصلاً ميتين، ده مفيش حد من قرية أبوصالح معاه فلوس يشترى فانلة أصلاً»، مشيراً إلى أن الأرض «حرشة» تحتاج إلى المياه كل 3 أيام بكميات كبيرة، وأن الطلمبات تحتاج إلى جاز لرفع المياه ورى الأرض، وأن صفيحة الجاز بـ60 جنيهاً الـ20 لتراً وأحياناً تأتى 16 لتراً فقط مخلوطة بالمياه: «الأرض الحرشة ما بتستوعبش الميّه، وبترشّح على النيل عاملة زى الغربال»، واصفاً قرار الهيئة الهندسية للإنشاء والتعمير بحكم الإعدام على الفلاحين الغلابة، موضحاً أن أراضى القرية كانت هضاباً وكثباناً رملية وبها حصى من أحجار، وأن الفلاحين هم من جاهدوا لاستصلاحها بعدما فشلت «الهندسية للإنشاء والتعمير» فى زراعتها فتركتها عن بكرة أبيها وقررت توزيعها على فلاحى القرية، وقرر هو أن يزيد من الأرض التى يزرعها: «بعت فدان وأجرت فدانين، قلت أزود حبة فى الأرض اللى بزرعها لقيتها زيادة فى خراب البيوت، طماع جاى علشان يرزق، لقاها خراب، كنت قعدت فى بيت أبويا، الملك أحسن»، يضع «معوض» حبات الرمل على طرف لسانه متذوقاً ملوحة الأرض البور، مستنكراً القرارات الصادرة ضد الفلاحين بشأنها فى حين يحصل من يسميهم «حيتان» على آلاف الأفدنة تمليك بسعر 50 و100 جنيه للفدان وبالتقسيط المريح، محذراً من قيام ثورة الفلاحين إذا ما حاولت الحكومة تطبيق قرار الحبس حال عدم الدفع.
وعلى بعد 150 متراً فقط من الـ«هيش» والرمال الموجودة على أطراف الزراعات لا يفصلها سوى بضعة أمتار عن ضفاف النيل، يتجمع عدد من فلاحى القرية داخل كوخ من «البوص» وسط الزراعات، يتبادلون الحديث عن أسعار الأسمدة والكيماويات التى يزداد سعرها ويندر وجودها فى الأسواق يوماً بعد يوم، ويتوسط الجلسة سعد محمد درويش، ويروى محنه المستمرة التى يواجهها مع الأرض منذ أن استأجرها من الحكومة قبل 28 سنة، مشيراً إلى أنها كانت تؤجر بـ14 جنيهاً للفدان سنوياً ثم زادت القيمة الإيجارية إلى 100 جنيه، إلى أن وصلت 480 جنيهاً والآن تفرض الحكومة 4 آلاف جنيه فى تعدٍ صارخ على حقوق الفلاحين، بحسب قوله، مضيفاً: «قدمنا شكاوى من سنتين وأنذرونا السنة اللى فاتت بالدفع أو الحبس، دى ناس قاعدة فى مكاتبها فى التكييف وبتصدر قرار ظالم باطش يهدد أمن الفلاحين»، موضحاً أن الحكومة تركت كامل معداتها تقريباً بعدما فشلت فى زراعة الأرض ووضعت عليها خفراء، ثم تبعها توزيعها على الفلاحين، مشيراً إلى أنه تكبد خسائر فادحة فى استصلاحها، وأنه صرف أكثر من 60 ألف جنيه فى استصلاح أرضه.
«محمد» يقول إن قرار زيادة الإيجارات سنَّه هشام قنديل فى فترة حكم الرئيس الإخوانى الأسبق محمد مرسى، وإنه يتم تطبيقه الآن، مشيراً إلى أنه وأهل قريته لن يتركوا الأرض وأنهم مستعدون للسجن بدلاً من ترك الأرض: «إحنا نموت فيها وما نسيبهاش، يا واكل قوتى يا ناوى على موتى»، يشير بذراعه الكبيرة إلى عدد من أشجار البرتقال التى لم يتجاوز طولها المتر ونصف المتر: «الشجرة دى مزروعة بقالها 6 سنوات زى ما هى من ساعة ما جت من المشتل وهى كده مش بتكبر لأن الأرض ضعيفة»، مستنكراً مستوى خصوبة الأرض والأملاح التى ترشح من الجبل والأراضى المرتفعة على أملاك الدولة التى تزيد الحكومة من قيمتها الإيجارية دون النظر لفقر الفلاحين: «يا يدونا حقنا اللى صرفناه على الأرض يا هتقوم ثورة الفلاحين الغلابة». يلتقط عزت وهبة أطراف الحديث، راوياً معاناته مع أرضه التى ترشح المياه فى النيل، وأنه يقوم بريها كل 3 أيام، بينما لا تحتفظ الأرض بالمياه وتقوم برشحها فى النيل مرة أخرى: «اللتر بـ2.5 جنيه، والفدان بياخد صفيحة جاز كل 3 أيام، يبقى الفدان بيعمل 3 آلاف و800 جنيه»، مشيراً إلى أن هذا المبلغ يدفعه فقط للجاز، بالإضافة إلى بقية التكاليف من سماد وكيماوى وحرث ومجهود: «الدولة فشلت فى زراعتها، وسابتها وإحنا جينا استصلحناها وزرعناها، وفى الآخر يعلوا علينا الإيجار».
ملف خاص:
قرى أطراف الصعيد.. موتى على قيد الحياة