«الفقيرة».. اسم فعلاً على مسمى
بيده الصغيرة يمسك الطفل بالحبل، من خلفه تخطو الأبقار مقيدة بأجسادها الضخمة، وسط الأراضى الرملية، التى تحد الزراعات المترامية الأطراف على حدود القرية.. وبخطوات قليلة داخل مدق ترابى شديد الضيق ينتهى بمنحدر، تنحصر تلك المساحة من الأراضى المنزرعة، وتظهر بيوت طينية مسقوفة بالأخشاب وجذوع الأشجار، وأخرى بـ«الجريد» المربوط بالحبال، بُنى أحدها على مرتفعات وأخرى وسط منخفضات غير منتظمة، وفى الوسط ممر ضيق يشطر القرية نصفين، تظهر فى بدايته لافتة ممهورة باسم «الفقيرة».. قرية صغيرة تقع فى أقصى قرى شرق النيل على أطراف محافظة بنى سويف وتتبع رسمياً مركز «ببا». يتماهى فى أرض «الفقيرة» التى لا تتعدى العشرة أفدنة بياض الصخر، مع خضار الزرع المنحوت فى الجبال، ويعانى سكانها من الفقر المدقع، الذى جعل من اسم القرية اسماً على مسمى، فبخلاف غياب الخدمات من عدم وجود مستشفى لعلاج الإصابات المتعددة من الثعابين والحيوانات المفترسة، إلى عدم وجود مواصلات تربط بين القرية والمرافق فى مركز «ببا»، الذى يفصله عنها نهر النيل، ولا يوجد سوى «لانشات» تغرق أحياناً بهم حين يهمون بالعبور للبر الآخر، علاوة على مساحتها التى لا تتعدى العشرة أفدنة، فيهجرها شبابها الذى لا يجد فيها ما يقتات منه لقمة عيشه، وسط الفقر المدقع الذى يغرقون فيه.
محمد جمال يتحدث لـ«الوطن»
فى وسط القرية التى تصل إليها عبر أحد الممرات الضيقة، غرفة صغيرة بنيت من الحجر الجيرى، تطل منها شاشة تلفاز صغيرة، وضعت على قفص من الجريد المصنوع يدوياً، وعلى مقربة منها يجلس خمسة من شباب القرية القرفصاء، على حصير متهالك، يلتفون حول لعبة «الدومينو»، التى وضعت على صفيحة جبن فارغة صدئة، وأصواتهم ترتفع بالصياح، تتخللها طرقات أيديهم بقطع اللعبة على الطاولة.
إلى جوارهم يجلس «محمد جمال»، يسند ظهره إلى الحائط، وهو يحتسى كوباً من الشاى، مهندم الملابس، طويل الشعر، وجهه لوحته الشمس، وذراع بها بقايا جرح لم يندمل بعد، لم يكمل عامه العشرين، عاد للتو من ليبيا، ومنذ عودته يقضى يومه ما بين مقهى القرية الفقيرة، والمنزل: «يا ريتنى ما رجعت، ولو فيه فرصة أرجع تانى هرجع، بس الرجوع مش ببلاش عايزين فلوس تانى عشان نقدر نرجع»، فكل ما جمعه من أموال يكفى بالكاد لإعادة بناء منزل والده بالحجارة بدلاً من الطين.[FirstQuote]
رغم صعوبة الوصول إلى الأراضى الليبية، لم يقض «جمال» سوى سبعة أشهر هناك، فى مدينة «الشحات» شمال شرق ليبيا، عمل خلالها أجيراً باليومية، يهدم حائط منزل.. نقاشاً.. «نجار مسلح»، ويقول بابتسامة صغيرة كشفت عن أسنانه الصفراء: «كنت بشتغل أى حاجة تجيب فلوس»، ليسد الدين الذى تحمله على عاتقه، حوالى ثلاثة آلاف جنيه مطالب بدفعها لمجموعة بدو ساعدوه فى الوصول إلى هناك عبر الدروب الصحراوية.
خرج «جمال»، قبل سبعة شهور، برفقة 2 من شباب القرية، وركبوا «ميكروباص» بجانب العديد من شباب القرى المجاورة الساعين للبحث عن لقمة عيش فى ليبيا، ومع كل كمين يقابلهم كانوا يخرجون مهرولين إلى الصحراء، فارين من ضباط الكمين، ليعبروا مساحة يسيطر عليها «الكمين» من خلف الهضاب والدروب الصحراوية، يقطعون، حسب روايته، ما يزيد على كيلو فى كل مرة، حتى يصلوا إلى نقطة لا يُرى فيها ضباط، ثم يتجمعون مرة أخرى، ويعودون للميكروباص، ويعيدون الكرة مرة واثنتين وثلاثاً، معرضين أنفسهم لمخاطر السقوط فى أيادى رجال الشرطة المصرية، أو الضياع فى الصحراء ومتاهاتها: «هى موتة ولا أكتر».. يقولها «جمال» مستنكراً، ويواصل رواية تفاصيل رحلته حتى الوصول للحدود ومنها إلى دخول ليبيا عبر الممرات الجبلية بعيداً عن المعبر، ومن هناك تبدأ رحلة شقاء البحث عن تسديد ثمن تلك المغامرة للبدو.
صبية يحملون الحطب
يتحدث «جمال» بهدوء، فيقول إنه كان يعمل أجيراً فى الأرض الزراعية القليلة بالقرية، قبل أن يقرر السفر للخارج، ولكن ضيق الرزق، وعدم وجود عمل بالقرية، دفعه للتفكير فى السفر، وأثناء وجوده فى ليبيا تعرض للكثير من المضايقات سواء من الميليشيات المسلحة فى مدينة «الشحات»، أو من شرطة الدولة الليبية التى تتبع القادمين لأراضيها عبر عمليات التهريب ودون إقامة، وحين قرر العودة والهروب عائداً إلى بلدته، وبمجرد الخروج من بوابة المدينة شاهد ألسنة اللهب تتصاعد من البوابة بعدما فجرها الإسلاميون، لتكون آخر ما يشاهد قبل رحيله: «شفت نار جهنم بس عندى أحسن من العيشة فى الفقر هنا».[SecondQuote]
بالقرب من باب المقهى يقبع «محمد حسين»، صاحب المقهى، 70 عاماً، ليدخن النرجيلة، بجسده الهزيل، وجلبابه المهترئ، يقول «حسين» إنه ودع نجله «طه»، 22 سنة، قبل أسبوع، حين سافر إلى ليبيا، ويضيف بصوته الأجش: «حتى لو رفضت سفره ليبيا، برضه مش هيرجع.. ما هو مفيش فلوس والأعمار بيد الله، وهو بيدور على لقمة عيشه هيحصل إيه».
وبالقرب من اللافتة التى تحمل اسم القرية، وبين سيدتين متشحتين بالسواد يجلس «مصطفى علاء» بجلبابه البنى، وسمرة وجهه، وشعره الأشعث على بوابة أحد المنازل التى بنيت بالطوب الأبيض، يبدو أنه انتهى من عمله للتو، وأخذ يتابع أطفاله الذين جاءوا يجرون الأبقار بالحبال تجاه المنزل، بامتعاض يفسر «مصطفى» سبب تسمية قريته بـ«الفقيرة»: «اسمها جاى من حالة الناس الصعبة.. من الفقر اللى حلّ على أهلها من ساعة ما خلقها ربنا»، فالشاب الثلاثينى فلاح أجير، يعمل ثلاثة أيام فقط فى الأسبوع: «والباقى قاعد عاطل وآدينا راضيين بقليله»، وحسب حديثه، لا يختلف حال باقى أهالى القرية عن حاله، فيعمل أكثر من 15% فى المحاجر التى تقع على مسافة بعيدة من صحراء القرية، ولكنهم عاطلون عن العمل الآن بعد إغلاق المحاجر، وشبابها يهجرها إلى لبيبا ليستطيع أن يعيش: «مفيش هنا شغل ولا فيه أى أكل عيش، الشاب هيقعد فيها ليه، والواحد بيوصل 30 ولا 35 سنة عشان يعرف يتجوز، غصب عنه لازم يمشى».
عدد من رجال القرية يدخنون «الشيشة» أمام صيدلية
«علاء» ولد بالقرية الفقيرة، ولم يعرف منزلاً لنفسه خارجها، يقول إن بلده الأثير هو الأكثر فقراً وإهمالاً من الحكومة فى بنى سويف: «إحنا مش موجودين على الخريطة بتاعتهم أساساً»، وعن أكثر الأزمات التى ألمت بالقرية يعدد «علاء»: عدم وجود مستشفى أو وحدة صحية، خاصة فى ظل وقوعهم فريسة لانتشار الثعابين والحيوانات المفترسة، لموقعهم على الأطراف الصحراوية، وهو ما يعرض أهلها باستمرار للدغات الثعابين: «لما حد بيتعب بيتسلف عشان ياخد أجرة عربية مخصوص من هنا لحد بنى سويف، ولما تبقى الحالة خطرة بنقعد نلم من بعض عشان نعالجه».
مقطب الحاجبين، يقول «علاء» بلهجة صعيدية مفعمة بالحماس إن أغلب أهالى القرية يستأجرون أرض منازلهم من الدولة: «بشتغل أُجرى 3 أيام فى الأسبوع، بناخد فى اليوم 35 جنيه بدفع منهم إيجار الأرض اللى مبنى عليها البيت وأكل عيالى.. وحالى أحسن من غيرى، معظم الناس هنا ما عندهمش أرض نهائى كلهم شغالين أجرية».. 3 آلاف شخص يعملون فى أرض الغير، والبعض يؤجر أرض الدولة: «الشاب هنا ما بيعرفش يتجوز قبل 30 سنة».
صبى يجر الأبقار عائداً من «الغيط»
الأمن يغيب أيضاً عن القرية كما تغيب جميع الخدمات: «السرقة فى عز الضهر عادى فى قرية الفقيرة.. كل حاجة معرضة للسرقة من المطاريد اللى بينزلوا القرية، من أول الحيوان اللى ممكن تكون بتربيه تأكل منه عيالك، لغاية ماكينة رفع المياه للأرض الزراعية»، فعصابات الجبال لا ترحم فقر القرية.[ThirdQuote]
«علاء» حضر الأيام الأخيرة من حياة جده، يشير بيده منتشياً إلى الأرض المزروعة على مقربة من منزله: «الأرض ديه بتاعة جدودنا.. كانت صحرا زى الرملة اللى ورانا ديه.. كانوا يقطعوا الحجر بالبارود والعتل، وصلحوا الأرض، ويشيلوا الدبش، ويزرعوها».. ينادى على نجله الذى خرج للعب فى الصحراء خوفاً عليه من لدغات الثعابين: «مش طالبين حاجة من الحكومة إحنا بس بنطلب من ربنا.. إحنا زى ما إنت شايف عايشين فى الصحرا، والتعابين فى كل حتة وأنا خالى مات مسموم من التعبان عشان ما لحقناش نوديه المستشفى، وفيه حالتين ماتوا الأسبوع اللى فات».
داخل الظلمة القاتمة التى تعيشها القرية بمجرد أن انكسر النهار، وعلى مقربة من أحد المنازل الطينية، يتابع أحمد محمد، 29 سنة، المارين على قارعة الطريق.. الرجل متزوج ولديه طفل وبنت، بدأ للتو تجربة العمل سباكاً للقرية، بعدما توقف العمل بالمحاجر، منذ الثورة: «فقر القرية باين حتى بيوتها الكل بيبنى دور واحد وسقفه بالخشب، والأرض مساحتها قليلة».
تعرض والد «محمد» للدغة من ثعبان، فمنزله قريب جداً من صحراء القرية، ولم يجدوا حينها طبيباً يعالجه بقرية بنى عقبة، القريبة منهم والتى تحتوى على وحدة صحية، ويستطرد بامتعاض: «الفقيرة معزولة تماماً عن العالم»، ويقول إن أقرب وحدة صحية فى قرية بنى عقبة على بعد أكثر من 5 كيلومترات ولا يوجد بها طبيب، واضطر إلى نقل والده إلى بنى سويف على بعد أكثر من 25 كيلو فى عربة خاصة لينقذه فى اللحظات الأخيرة: «التعابين أنواعها مختلفة، وأبويا قرصه تعبان شديد، والواحد عشان يجيب عربية تنقل لازم يتسلف، وعقبال ما نقلناه بنى سويف كان هيروح مننا».
أبناء القرية داخل مقهى
بجوار بيت طينى متهالك يجلس «أحمد على»، 60 عاماً، عامداً بظهره إلى باب البيت الخشبى، بملابسه الرثة، وملامحه العابثة، وخطوط وجه حفرها الزمن، فمنذ أن توقف المحجر الذى كان يعمل فيه وهو يحاول البحث عن عمل جديد ليقتات منه لقمة عيشه، ولكن دون جدوى: «إحنا كنا شغالين فى المحاجر، والمحاجر بطلت ولا عندنا زرع ولا قلع، وربنا يرزقنا بيومية ولا حاجة بعد يومين ولا تلاتة»، الرجل الذى ولد يتيماً يقول: «مشوفتش لا أب ولا جد، طلعت كده منى للسما»، وعمل منذ صغره فى المحاجر، وحتى توقف العمل فى جميع المحاجر القريبة من القرية، بعد ثورة 25 يناير، ويقول إن جميع أصحاب المحاجر كانوا من خارج بنى سويف، وبمجرد توتر الأوضاع الأمنية فى المنطقة وغلاء أسعار البنزين، هرب أصحاب المحاجر للعمل فى مناطق محاجر المنيا والسويس، التى تبعد أكثر من 100 كيلو: «لو فيه فلوس مكناش سبنا بيوتنا مبنية بالطين زى ما هى كده، وآدى لنا شهر محدش شاف ربع جنيه من بره البيت».
حين تشرق الشمس يصحو «على» ليخرج من باب المنزل، ويجلس على حصيرة قديمة أمام منزله الطينى، دون أن ينبس بنبت شفة، هرباً من مطالبات أولاده وزوجته اليومية: «البيت اللى نايمين تحت حيطه عليه 5 آلاف جنيه، ما هو أرضه من أملاك الدولة، والواحد معهوش حتى ربع جنيه»، ويشير بيده إلى المنازل المتاخمة له: «حالنا أحسن من غيرنا، الست ديه مش لاقية حتى تاكل، من ساعة ما جوزها نزل مصر يشتغل، البلد ما فيهاش شغل».
وعلى مبعدة من جلسة «على»، يقف «حراج سيد» يكمل جداراً طينياً تهدم من منزله، طويل القامة وبشارب قصير، يحاول تنظيف يده الملطخة بالطين اللبن، ويمسك بهاتف فى لهفة: «أخبارك إيه يا محمد والعيشة عاملة معاك إيه؟ ما تيجى لا يحصلك حاجة هناك»، كلمات مقتضبة أنهى بها المكالمة مع نجله الذى هرب إلى ليبيا من فقر القرية المدقع، فدفع له 3 آلاف جنيه لمجموعة من البدو، لتهريبه عبر الصحراء للعمل فى ليبيا منذ أربعة شهور: «الدنيا والعة هناك.. وهو رايح لموته، قال أموت وأنا بدور على أكل عيشى أحسن ما يقعد جنب اخواته.. وهنا ميت وهناك ميت فخليها موتة بالمرة».. يشير «حراج» إلى داخل منزله الطينى إلى أبنية الآخرين اللذين يجلسان بجانب والدتهما داخل المنزل: «قاعدين لا شغلة ولا مشغلة، يوم فيه ويوم مفيش، واللى بيشتغلوا بيه بيضيعوه».
بوجه شاحب، راكباً فوق دراجته البخارية، يتجه شعبان سليم، 22 عاماً، نحو المعدية، التى تصل القرية بمركز ببا، يقول إنه لا توجد وسائل مواصلات إلى القرية سوى الطريق الصحراوى، الذى يمتد إلى أكثر من 80 كيلومتراً من القرية إلى بنى سويف، ومراكب شراعية يستخدمها أهل القرية للعبور للبر الغربى من النيل: «مراكب توصلك لكفر جمعة، ومنها عربية خاصة إلى ببا»، ولا أحد يسلم من تلك اللنشات والمراكب المتهالكة: «حصلت كذا مرة، وسقط كتير من اللانش وماتوا»، علاوة على بطء تلك المراكب، خاصة فى ظل محاولة إنقاذ أحد الذين لدغتهم الثعابين فى القرية: «ولو حد حصله حاجة عقبال المركب ما تروح وترجع بيموت، وناس كتير ماتت قبل ما تطلع من القرية أصلاً».
تزوج «شعبان» منذ شهرين، ولكنه يتجه للبحث عن عمل خارج القرية كبقية أقرانه: «العريس فى القرية مابيقعدش مع مراته أكتر من شهرين، وبعدين يسيب القرية»، يضيف: «هناخد واحدة نجوعها، إحنا لاقيين ناكل عشان نتجوز، ومش هينفع الواحد يقصر فى مصاريف البيت ولو جبت عيل، وتعب هسرق عشان أصرف عليه يعنى».. فالرجل كان يشارك أحد من يمتلكون أرضاً زراعية فى الفلاحة: «هنا الناس بتزرع مع بعض بالنص، اللى عنده أرض مش لاقى يزرعها، واللى معندوش بيحاول يزرع مع اللى جنبه عشان يأكلوا عيالهم».