يرى الكاتب الروائى الشهير «فيكتور هوجو» أن سر العبقرية يكمن فى القدرة على الاحتفاظ بروح الطفولة إلى الشيخوخة، وذلك فى اعتقادى أحد أسرار عبقرية سيدة الشاشة العربية، فقد استطاعت فاتن حمامة أن تحتفظ بالبراءة وروح الطفولة فى أعماقها، منذ إطلالتها الأولى على الشاشة فى «يوم سعيد»، وحتى رحيلها المباغت فى «يوم حزين» كانت فيه على موعد مع القدر فوق جسر الوداع!
ومثلما عاشت «أيقونة السينما» رقيقة هامسة شامخة، رحلت واقفة كالأشجار واستسلمت روحها فى هدوء وعذوبة وكبرياء، ليفقد الوطن قيمة وقامة فنية وإنسانية عظيمة محفورة فى الوجدان والضمير العربى. رحلت صاحبة الأداء الرفيع والصرخة الهامسة التى أثرت بفنها صفحات ناصعة من تاريخ السينما المصرية، وظلت مثالاً للالتزام والانضباط والاحترام وصدق المشاعر والأحاسيس.
لقد منح الله فاتن حمامة قدرة هائلة على إدارة موهبتها الفنية وحياتها الاجتماعية ببراعة وذكاء وحنكة، فاستطاعت أن تصنع لنفسها بصمة مميزة، ومكانة متفردة لم يستطع أحد أن ينازعها عليها، فصارت بحق هى السيدة الأولى على عرش مملكة السينما الأثيرة، واقتحمت بشجاعة العديد من القضايا الاجتماعية والوطنية الشائكة، وكانت حاضرة بمواقفها وآرائها فى أحلك ظروف الوطن وأصعبها، وراصدة لكل ما يجرى فى المجتمع من تغيرات وتحولات وأحداث، تنتقد بهمس ورقة ووعى، وتتصدى بشجاعة وصدق وصراحة دون أن تؤلم أو تجرح.
رسمت فاتن حمامة فى ذهنية جمهورها منذ بدايتها صورة للفتاة الضعيفة المظلومة التى تقاوم ظروف الحياة القاسية المريرة، وساهم وجهها الملائكى البرىء وشخصيتها الهادئة، وإيقاع صوتها الهامس الذى يفيض بالشجن فى سجنها طويلاً داخل نوعية من الأدوار، وقد روى لى المخرج صلاح أبوسيف -فى أحد لقاءاتى معه- أنه رشحها لتؤدى دور «نفيسة» فى رائعة نجيب محفوظ «بداية ونهاية»، ولكنها تخوفت من أداء تلك الشخصية البعيدة كل البعد عن أدوارها، ولكن بعد أن شاهدت الفيلم فى العرض الخاص ندمت على اعتذارها!
وأذكر أننى حين التقيت الفنان عمر الشريف فى حوار عند بلوغه سن الستين، اعترف لأول مرة بأن فاتن حمامة ظلت دائماً هى «الحب الوحيد» الحقيقى فى حياته، وكم كنت سعيدة وقتها بهذا الاعتراف الذى يرضى مشاعر الأنثى داخل كل امرأة، ولكن على العكس وقف أستاذى الكاتب الكبير محمد تبارك، والذى كانت تربطه بها علاقة إنسانية ممتدة، فقد رأى أن هذا الاعتراف لن يرضيها كزوجة للطبيب الشهير محمد عبدالوهاب، وبعد نقاش طويل نجحت فى إقناعه بالنشر بعد اختصار كثير من التفاصيل، ولكنى علمت بعدها أن هذا الاعتراف أغضبها، حتى إنها طلبت من الصحفيين المقربين لها عدم نشر تصريحات تتعلق بعلاقتها مع عمر الشريف. إلى هذا الحد كانت هذه الإنسانة الرقيقة حريصة على مشاعر كل من حولها.
وأستطيع القول إنه بقدر مشاهدها العديدة التى لا تنسى على امتداد نهر عطائها الفنى والإنسانى، فإن مشهد لقائها مع الرئيس عبدالفتاح السيسى، عندما هبط من المنصة -فى لفتة رائعة منه- لكى يحتفى بتلك العظيمة، سيظل بحق هو المشهد الذى يجسد مكانة وقيمة فاتن حمامة فى قلوب وأفئدة الأمة العربية، فهذا التقدير وتلك الحفاوة من رئيس الدولة تستحقه سيدة الشاشة بالفعل وعن جدارة دون جدال.
واسمحوا لى بأن أستعير كلمات الراحلة فى حوارها الأخير مع جريدة «الوطن»، والتى لخصت فيه بعبقرية أزمة المجتمع فى كلمتين هما «الفقر والذوق»، وهذا فى تقديرى يعكس ويفسر ما وقع من فوضى فى رحلتها لمثواها الأخير، وكذلك ما دار حولها من جدل ونقاش وتعليقات فى الفضاء البديل على مواقع التواصل الاجتماعى، لكن ما يدهشنى حقاً تلك «الشماتة الوقحة» التى يبديها الإخوان، وكأن الموت أصبح عقاباً إلهياً على مواقفنا وقناعاتنا السياسية والوطنية. حقا إنهم يثبتون لنا كل يوم أنهم ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين!!
رحلت فاتن حمامة، لكن حضورها سيظل باقياً فينا وأكثر حقيقة وعمقاً!!