الدكتور يوسف عامر يكتب: محاسبة النفس
د. يوسف عامر
ننشغلُ بمحاسبةِ الآخرينَ وننسَى محاسبةَ أنفسِنا، فنُسىءُ مرتيْنِ، نعَم على المرءِ أنْ ينصحَ ويُوجّهَ وينهَى عن السوءِ، ولكن عليه أنْ يُلزمَ نفسَه بهذا قبلَ أنْ يُطالبَ به الناسَ، أما الذى يغفُلُ عن حقِّ نفسِه عليه فى المحاسبَةِ وينشغلُ بنقدِ الآخرينَ فقد أساءَ إلى نفسِهِ مرتين، مرةً حينَ ترَكَ داءَ نفسِهِ بلا علاجٍ، ومرةً حين شغَلَها بالغيرِ فرأتْ نفسَها أقومَ مِن سواها وأصلحَ، فى حينِ أنَّها قد تكونُ أدنَى ممَّن تَنقدُ أعمالَهُم ولا تَرضَى صَنيعَهُم.
وقد جاءَ القرآنُ الكريمُ مُنبهاً على أهميةِ محاسبةِ النفْسِ، قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» [الحشر: 18]، والأمرُ (ولتنظر نفس ما قدمت لغد) هو أمرٌ بمحاسبةِ النفسِ، والنظرِ فى أعمالِها التى سوفَ تُحاسَبُ عليها يومَ القيامة. والأمرُ بالنظرِ معناهُ أن يتأملَ المرءُ عملَهُ، فالنظرُ فيه تأملٌ وفَحصٌ، فعلَى المرءِ إذاًْ أن يتأملَ أعمالَهُ، هل كانت خالصةً للهِ تعالى؟ أم نُظِرَ فيها إلى غيرِ اللهِ؟ وإذا كانتْ خالصةً لوجهِ الله فهل كانتْ جاريةً وفْقَ شرعِ الله تعالى ومرادهِ؟ أم كانت مخالفةً؟ وهل حمِدَ الله تعالى على أن وفَّقهُ لصالحِ العملِ أم رأَى لنفسِهِ الفضلَ فيه «ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ» [الزمر: 49]؟...
وكلمةُ (قدَّمَت) تُبينُ أنَّ كلَّ أعمالِ الإنسانِ كبيرَهَا وصغيرَها، ما كان بينَه وبين نفسِه، وما كان بينَه وبين الناس، ما أسرَّ به وما أعلنَهُ، كلُّها أعمالٌ يُقدّمُها المرءِ للقاءِ الله تعالى، فعليه أن يُحسنَ عملَهُ «وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً» [المزمل: 20].
ويُلحظُ أنَّ الآيةَ الكريمةَ عبّرتْ عن يومِ القيامةِ بلفظِ (غَد) النكرة، وهذا فيه إشارتان؛ إشارةٌ إلى قِصَرِ الحياةِ الدنيا مهْمَا طالتْ وقُربِ يومِ القيامة، حتى كأنَّ الحياةَ الدنيا مهما طالتْ حياةُ المرءِ فيها يومٌ واحدٌ غَدهُ هو يومُ القيامة! وفى تنكيرِ لفظِ (غد) إشارةٌ إلى أنَّ هذا اليومَ يَجهلُ الإنسانُ كُنَهه [حقيقتَه]، وفى هذا ترهيبٌ مِن هولِ هذا اليومِ الذى لا يَغيبُ فيه شىءٌ مهْمَا دقَّ «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراً يَرهُ» [الزلزلة: 7، 8].
وقد أوجزَ سيدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذه المعانى فى حديثٍ شريفٍ قال فيه: «الكيِّسُ [العاقل] مَن دَانَ [حاسَبَ] نفسَهُ، وعمِلَ لِمَا بعدَ الموتِ، والعاجزُ مَن أتْبعَ نفسَهُ هوَاهَا وتمنَّى على اللهِ». [الترمذى وحسنه]، نعم.. أىّ عقلٍ لمن انشغلَ عن نفسِهِ ولم يحاسبْهَا على أعمالها ويراقبْ أحوالَهَا؟! وتأملِ وَصفَ (العاجز) فى حقِّ مَن اتبع هواهُ وتمنى النجاةَ بلا عملٍ صالحٍ!
ولأهميةِ هذا المعنى ذكرهُ سيدُنا عمرُ بنُ الخطاب رضى الله عنه فى خطبةٍ له حملَهَا الناسُ جيلاً بعدَ جيلٍ حتى وصلتْ إلينا، قال رضى الله عنه: حاسبُوا أنفُسَكُم قبلَ أنْ تُحاسبُوا، وزِنُوا أنفسكم قبلَ أن توزنوا، وتزيّنُوا للعَرضِ الأكبرِ «يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ» [الحاقة: 18].