نعيش وسط الذكريات الجميلة والصور الواضحة التى تخرج منها الحياة الحقيقية التى عاشها من سبقونا وعلمونا وهمسوا لنا بما تحتوى ومعانيها وكيف نتعامل مع دقائقها وساعاتها وأيامها ولياليها، كيف نتقبل كل أحداثها بالرضا والابتسامة والحمد والشكر. ونتذكر تلك الكلمات المأثورة التى تكون منها قانون الحياة ودستور العائلات العريقة الكبيرة وحتى العائلات الصغيرة البسيطة وقعت عليه برضا واتفاق صامت دون تذمر أو ملل أو نقاشات لا معنى لها وعاشت تنفذه وتحرص عليه، ولم يكن غريباً أو غير مقبول أن تداعب بنود ذلك القانون الإنسانى الراقى مشاعر وإبداعات الفنانين فكتبوا عنها وعن معانيها ولحنوا وغنوا أصحاب الأصوات الذهبية، حتى إنه من الممكن أن نضم تلك الأعمال فى ألبوم واحد تحت مسمى عائلى. فهل ننسى أغنية (يا بيت أبويا معزتك فى عينيّا) و(بيت العز يا بيتنا) و(يا غالى عليّا يا حبيبى يا أخويا)، وإبداعات الراحل عبدالمنعم مدبولى صاحب لقب (جدو عبده) وفؤاد المهندس (عمو فؤاد) وارتباط الأطفال بهما، حيث أصبحا أيقونة الأحلام الخضراء ومنهما تعلمنا ونحن صغار معنى الحب والوفاء وأحسسنا بلمسات الأيدى واحتضانها من جدو وعمو وخالو. وحتى الآن لم ننسَ تلك الأغنية التى تفاخرت فيها سعاد حسنى على قرية بأكملها ونسائها بخالها البيه، فهو العزوة والنسب وشقيق الأم والسند عند الحاجة. لقد حملت أجمل الأعمال التليفزيونية والإذاعية ألقاب العائلة التى توشك أن تختفى من حياتنا بعد تلك الهجمة الشرسة من عادات ليس لنا بها علم أو معرفة من قبل، حتى أصبحنا نعيش فى مجتمع غرباء واختفت تماماً من بيننا مشاعر كانت تدفئنا جميعاً وتجمعنا وأصبحت هناك دعوات للرحيل عن البيت العائلى حتى قبل الزواج والارتباط بحثاً عن الاستقلال والحرية.
وحتى لا ننسى كيف كانت تلك الحياة علينا أن نتذكر ذلك المسلسل التليفزيونى (القاهرة والناس) الذى بدأت إذاعته فى التليفزيون المصرى فى ستينات القرن الماضى من تأليف مصطفى كامل وعاصم توفيق وأخرجه جلال غنيم ومحمد فاضل، والذى يعتبر نقطة انطلاق نجوم السينما والتليفزيون المصرى من ذلك الجيل، وكان المسلسل تشريحاً للمجتمع وللظواهر التى تغزوه، وفى حديث عن نجاح هذا المسلسل وترحيب المصريين به وانتظار حلقاته التى كانت تذاع أسبوعياً، قال مخرج العمل محمد فاضل إنه كان يتناول حكايات منفصلة عن طبيعة العلاقات الأسرية والاجتماعية سواء بالمنزل أو العمل أو المدرسة والجامعة أو أى مكان آخر. وقد كتب هذا العمل على غرار مسلسل اجتماعى أمريكى عرض عام ١٩٦٤ على هيئة الإذاعة الأمريكية سمى (بيتون بليس) وكان يتناول مشكلات المجتمع والأسرة، وبلغ عدد مواسم المسلسل ٥ وعدد حلقاته ٥١٤ وقد تابعته نسبة كبيرة من المصريين، ومن هنا جاءت فكرة كتابة «القاهرة والناس». وقد بدأ عرض العمل بعد حرب ١٩٦٧ وروعى فى كتابة حلقاته تشريح المجتمع ومعاناة الأسرة بجميع أفرادها من ذلك الحدث الذى هز المصريين والبحث عن علاج وعن الطرق المثالية لتخطى تلك الأزمة. وكانت كل حلقة تحمل اسماً وعنواناً منفصلاً يشير إلى تفاصيلها فمنها (بنات بنات) و(الدكتور عبده) و(ليالى الحب والزواج) و(أهلاً يا قطة) و(إجازة سعيدة) و(أغنية للوطن) و(الجريمة والعقاب) و(كفر الغلابة). وبالرغم من الوجوه الجديدة فى ذلك الوقت التى استعان بها مخرج وكاتب هذا العمل، إلا أن البطولة الحقيقية فيه كانت للشخصية التى لها علاقة أسرية قوية والمكان المعين الذى تركز عليه الحلقة والتغييرات التى شهدها المكان وأصحابه والقصص الواقعية أو الطريفة وطريقة العرض والمواضيع الموسمية التى حملت الحلقات اسمها فى بعض الأحيان.
والآن بعد أن أصبحنا فريسة لما يسمى فى اللغة «الفرانكو آراب»، وفى الحياة الاجتماعية «الجروب» فهناك جروب الماميز وجروب المدرسة وجروب الآباء وجروب العمل والجيران والعائلة، وكل هذا لأنه لم يعد هناك لقاءات حقيقية بل أصبحنا نلتقى عبر الأثير وعلى الهواتف المحمولة، وعن تجربتى الشخصية ونفسى وقلبى ومشاعرى التى قيّدتها الأيام والأحداث والغزو الفكرى والاجتماعى وأصحاب النفوس الضعيفة وناكرى الجميل ومزورى شهادات الميلاد والانتماء والباحثين عن حب وأمجاد مزورة فإننى لا أؤمن إلا بالمصافحة بالأيدى وعناق الأشواق والحديث وجهاً لوجه، ولا تسعدنى وترضينى إلا لمعة الأعين فرحاً وشوقاً و«رغرغة» الدموع ألماً أو سعادة؛ لأننى لا أستسيغ تلك المشاعر المعلبة حبيسة أجهزة الهاتف والكمبيوتر وشبكات الإنترنت.