كان القرن الـ19 للتوِّ قد انتصف، حين أبحر الأديب والصحفى والرحالة الأوروبى «شارل ديدييه» على متن مركب من ميناء السويس تجاه الحجاز. هذا السويسرى ذو الجذور الفرنسية، الذى درس القانون، وعلم النبات، والرياضيات، لمَّا استقر به المقام فى جدة، على ساحل البحر الأحمر، ذُهل كثيراً فى أثناء تجوّله فى المدينة! لقد شاءتْ الأقدار، وقد ناهز الخمسين من عمره وقتئذ، أن يقف عند عتبات قبر أول امرأة نعرفها على الأرض! أم البشر؛ «ستنا حواء»! رُبما يكون هذا فى نظر بعضنا مدهشاً، لكن الأكثر إدهاشاً هو السردية الشعبية الغريبة التى وثّقها «شارل» عن سبب دفن حواء فى هذا المكان!
يُوثق «شارل ديدييه» عن جغرافية جدة فبراير 1854، أن سوراً كان محيطاً بالمدينة الساحلية، ومحصناً لها. كان فى السور أبوابٌ ثلاثة؛ الباب المفضى إلى طريق اليمن جنوباً، والباب المُشرع نحو طريق مكة شرقاً، ثم الباب المؤدى إلى المدينة المنورة فى الشمال، حيث توجد الثكنة العسكرية التى أسسها «محمد على باشا» عقب نصره على الوهابيين فى حملته وابنه - الأب الروحى للعسكرية المصرية «إبراهيم باشا» - على الحجاز. كان على رأس هذه الثكنة لحظتئذ البنباشى التركى «إسماعيل بك»، الذى رحب بشارل، وقدم له القهوة، ودخن معه النارجيلة. وقد لاحظ «شارل» وجود عدد من طواحين الهواء جوار الثكنة، بناها «مُحمد على» من أجل قواته قبل سنوات، لكنها أُهملت عقب رحيله باعتبارها «بدعة أوروبية»، فاستحالتْ مأوى للجند غير النظاميين! وبالقرب من الثكنة كانت المقبرة العجيبة، المحاطة بالأسوار، المحكمة الإغلاق، التى لم يرَ «شارل» فى الشرق مثلها! فالقبر لا يقل عن 60 متراً فى طوله. بدت حواء أطول قامة من الحاليات! ويرتفع من فوق قبرها مسجد صغير ذو قبة بيضاء. لكن لِمَ جاءت أمنا حواء إلى تلك البقعة من العالم؟!
أنصتَ «شارل ديدييه» إلى الحكاية الشعبية الموروثة فى المدينة، البالغ عدد سكانها -ذلك التاريخ- من 15 إلى 20 ألف نسمة، إذ قالوا إن الملل قد تسلل إلى قلب أبينا آدم عقب نحو مائة عام من حياة زوجية هانئة. ولمَّا لم يكن هناك إناث فوق الكوكب سوى بناته؛ مال فؤاده إلى إحداهن. وحين تنامى النبأ إلى حواء، أقسمت المرأة المجروحة أن تنتقم، وفكرتْ فى إيلامه بأحد أبنائها؛ لأنه أيضاً لم يكن على سطح الأرض رجال سواهم، لكنها صُدمت بقسوتهم، فهُم لم يروها سوى امرأة كبرت، ولا تروقهم. انزوتْ أمنا حواء، وحزنتْ كثيراً، لكنَّ أبانا لم يستمر فى طريق أهوائه؛ بل راجع نفسه، وآب إلى زوجته، مصالحاً إياها، طالباً غفرانها. وعقب أن طيّبَ خاطرها، وصفحتْ عنه، اتفقا على رحلة دافئة تجمعهما معاً، بعيداً عن صخب البشر، إلى شبه جزيرة العرب، ثم يشاء الله أن تموت هناك، ليدفنها أبونا آدم -حزيناً مكلوماً- فى المكان نفسه، ويغادر بعد أن أصبح أرمل، ليموت فى جزيرة «سيلان». رغم إنسانية الحكى فإنه غير متفق مع إرث المسلمين، وغير لائق بأبى البشر وأمهم. وفى رأيى أنه مجرد موروث شعبى، أقرب إلى ميثولوجيا عربية، مرادها أن عيون الرجال منذ البدء «فارغة»، وأن الزمن وتجاعيده هو عدو المرأة الأول.
وثق «شارل ديدييه» كل مشاهداته عن رحلته من القاهرة إلى الحجاز بالفرنسية، ونشرها قبل أن يموت منتحراً فى باريس عام 1864 عقب إصابته بالعمى، وقد ترجم كتابه إلى العربية الباحث والمترجم السورى د. محمد خير البقاعى، فى نسخة مُلهمة بعنوان «رحلة إلى الحجاز»، كشف فيها مساحات غائمة من تاريخ شبه جزيرة العرب فى القرن الــ19 بعيون غربية. أما مقام «ستنا حواء»، فقد ظل فى مكانه بمدينة جدة، حتى حاول شريف مكة «عون الرفيق»، ذو الميول السلفية الوهابية، هدم قبتها من ضمن ما هُدم من مقامات الصالحين، لكن قناصل الدول الغربية حالوا دون ذلك؛ باعتبار أنه قبر لوالدة البشر جميعاً، وليست أماً للمسلمين وحدهم، ثم جاء الملك عبدالعزيز آل سعود، فأمر بهدمه وإزالته من على سطح الأرض عام 1926، إبان تأسيس المملكة السعودية. رحم الله أمنا حواء أينما كانت.