فى مقال سابق بعنوان «فى معنى الفساد وسلوكه»، قلنا إن الفساد والإفساد لا يتعلق فقط بتجاوز القوانين والانحراف عن تطبيق اللوائح الإدارية، وهو ما يعرف بالفساد الإدارى، وإنما هو كل سلوك خرج عن صحيح القيم والأخلاق والقانون، وإن السلوك الفاسد هو خليط من الكذب والخداع والنفاق وطمس الحقيقة، وإن كثيراً من الناس يفعلون الفساد بدرجات مختلفة ويتصورون أنهم مُصلحون، خاصة أن كثيراً من هذه السلوكيات الفاسدة لا تنظمها قواعد إدارية أو قانونية وإنما تخضع فى تقييمها لمرتكزات دينية وأخلاقية بالدرجة الأولى، وأشرنا إلى بعض الأمثلة السلوكية التى يراها البعض سلوكاً عادياً وهى فى جوهرها سلوك فاسد يستحق العقاب المادى والمعنوى معاً.
وهناك كثير من الأمثلة التى يبدو أننا اعتدنا عليها من كثرة تكرارها وقلة حيلتنا فى مواجهتها، وسوف أشير هنا إلى مَثْل شائع نقابله كل يوم تقريباً، وجميعنا يغض الطرف عنه، فمن المعتاد أن نشترى خبزاً فى أكياس بلاستيكية مغلقة بإحكام، ومكتوب عليها اسم المخبز وصاحبه، مثل مخبز الحاج «إكس»، ومجرد أن يصف صاحب المخبز نفسه بالحاج فهو يريد أن يعطينا الانطباع بأنه شخص ورع ويتقى الله فى خلقه، أما الحقيقة فتظهر عندما نفتح كيس الخبز فنجد أن رغيفاً واحداً فقط تنطبق عليه المواصفات، عادة هو الرغيف الذى نراه ونتصور أن الأرغفة الأخرى هى على نفس الشاكلة، وإذا بها عبارة عن قطعة عجين دائرية بيضاء لم تدخل الفرن إلا ثوانى معدودة، وبحاجة إلى أن تُخبز من جديد، وكثير منا إما يتخلص من أشباه الأرغفة غير الناضجة أو يحاول أن يضعها على النار بضع دقائق لعلها تتحول إلى رغيف من الخبز القابل للأكل.
وقد يتصور البعض أن هذا النوع من الفساد يمكن احتماله لأنه فساد صغير، فى حين أنه فساد مُركب لأنه يحول بسطاء الناس إلى مفسدين يعتادون الغش والخداع والطمع والجشع، فكيس الخبز هذا يخرج عن منظومة عمل وتوجيهات مُحكمة من الحاج «إكس» صاحب المخبز إلى عماله الذين يفعلون هذا الغش والخداع ويتصورون أيضاً أنهم غير معنيين ولا يخضعون للحساب، فى حين أنهم صاروا مفسدين ويتحملون الوزر تماماً مثل الحاج صاحب العمل، فهم جميعاً شركاء، ومن هؤلاء وأمثالهم يخرج المفسدون الكبار، الذين لا يتورعون عن الترويع وقتل الأنفس البريئة التى نهى الله تعالى عن قتلها إلا بالحق، وإشاعة الخوف بين الناس وممارسة كل أفعال الإرهاب المادى والمعنوى، متصورين أنهم مقاومون وأنهم ثوريون وأنهم مصلحون فى الأرض، ويقيناً أن صاحب المخبز وأمثاله فى مواقع مختلفة هم رؤوس للفساد، ومن على شاكلتهم يخرج الداعمون لجماعات الإرهاب والممولون لها.
لا يختلف هؤلاء عن الذين يتصورون أنهم محصنون بحكم أعمالهم فى جهات خاصة، وفى رحلة بتاكسى قبل ساعة من الإفطار قبل يومين، تحدث السائق هاتفياً مع زميل له عن إحدى بطولاته فى نهار رمضان، وخلاصة ما قاله أن شاباً صغير السن عاكسه بسيارة بسيطة فما كان منه إلا «ظبطه أحلى تظبيطة» فقال له كلاماً يعف عنه اللسان وكسر أنفه ونظارته، وحين ظهر ضابط المباحث فى قسم الشرطة القريب من مكان الحادثة، أخرج السائق بطاقته للسيد الضابط فعرف هويته الأصلية، وما كان من الضابط، حسب رواية السائق، إلا أن وقف بجانبه وعنّف الشاب الذى تم «تظبيطه وكسر أنفه»، ووبخه وطالبه بأن يحترم سائق التاكسى ذا الهوية الغامضة، بل وحاول أن يكتب محضراً يدين فيه الشاب، غير أن رجال «الحتة» استعانوا بفضل شهر رمضان، وأقنعوا الضابط بأن يكتفى بما كان، وعند هذا الحد أخذ السائق يؤكد لمحدثه أنه مبسوط مما فعله ناسياً أن أخلاقيات شهر رمضان تنهى عن مقابلة الإساءة بإساءة مثلها، فما بال من تغول فى الرد مستنداً إلى كونه موظفاً فى أحد الأجهزة، وما إن انتهت هذه المكالمة حتى جاءت أخرى للسائق نفسه وفيها تم الكلام حول تعيين أحدهم، وكيف سيتم «تظبيط» الورق ولا داعى للقلق، وعند هذا الحد حمدت الله أننى وصلت إلى مبتغاى، ولكن القصة والمعنى ما زالا ماثليْن أمامى.
إن المجتمع الذى يتغاضى عن أشكال الفساد الدنيا ويتعايش معها باعتبارها أمراً طبيعياً يكون مؤهلاً أكثر لدرجات الفساد الأعلى، فالموظفون الذين يخونون أمانة وظيفتهم ويستغلون مواقعهم لأغراض شخصية أو يسربون المعلومات لمن لا يحق له التعرف عليها هم الأكثر تأهلاً لكى يشاركوا فى الأعمال الإرهابية الخسيسة. ولدينا فى بعض موظفى شركات الكهرباء المنتمين أو المتعاطفين مع الجماعة الإرهابية عبرة ومثل، فهؤلاء باعوا ضميرهم وفضلوا جماعتهم الإرهابية على مقتضيات وظيفتهم وعلى وطنهم كله، فقاموا بتسريب المعلومات الفنية الدقيقة عن توزيع الشبكات والأبراج، تمهيداً لتفجيرها بواسطة عناصر الجماعة، وكذلك الذين يسربون المعلومات عن خطط أمنية لتأمين شخصيات عامة أو منشآت ذات طبيعة خاصة لاستخدامها فى أعمال إرهابية، كالتى حدثت قبل يومين مستهدفة حياة النائب العام كرمز للمنظومة القضائية ككل، هؤلاء جميعاً يبدأون بأشكال دنيا من الفساد مثل إفشاء الأسرار، ثم يتحولون لاحقاً إلى أعلى درجات الفساد وهو الإرهاب ونشر القتل والخراب.
الفساد والإرهاب منظومتان متكاملتان، ومهما قيل عن أن الفساد الإدارى لا علاقة له بأشكال الفساد الأخرى، فهو كذب وخداع للنفس، فالشخص الفاسد هو المؤهل لكى يكون إرهابياً بامتياز، سواء كان عضواً نشطاً فى جماعة إرهابية أم لا، أو يكون على الأقل خادماً له. فالإضرار بالدولة ومؤسساتها العامة والخاصة من خلال إشاعة أشكال الفساد المختلفة دون حساب وردع هو نوع من الإضعاف المنهجى المستتر للدولة وبمثابة تمهيد لإسقاط مؤسساتها فى قبضة الإرهابيين أياً كانت الأسماء والشعارات التى يرفعونها، فالإرهابيون جميعاً فى مركب واحد وهدفهم واحد، يبدأ بإشاعة الخراب وعدم اليقين عند جموع الناس ونشر الفوضى وسلوكيات التوحش والإجرام ثم السيطرة على الجموع بالخوف والدماء، ذلك ما حدث فى العراق وسوريا واليمن وليبيا، ويُراد له أن يحدث هنا فى مصر، وإذا كان الله سبحانه وتعالى يعصم كنانته من كل سوء، فإن أبناءها مُحملون بوديعة أن يكونوا عند حسن الظن بهم، ولا يشفع لهم إلا الضرب بيد من حديد على كل مُفسد وباغ وساع إلى إفساد كل ما حوله.