كثيراً ما احتدم النقاش بعد ثورة 30 يونيو 2013 بين مؤيدى الثورة ومعارضيها. ومعارضوها ليسوا من الإخوان فقط، بل كان من بين المعارضين ليبراليون ويساريون «مثاليون» ممن يتمسكون بحرفية النظرية فى نصوصها المقدسة الأولى. كانوا يقولون: ماذا لو صبرتم أربع سنوات ثم احتكمتم إلى الصندوق الذى أتى بهم؟ عندئذ سوف تكون فرصة إزاحتهم بالصندوق أكبر، بعد أن تتراكم أخطاؤهم وسوآتهم! سؤال برىء كان يرهن المستقبل فى ذمة الصندوق، وكان يرهن الصندوق فى ذمة الإرادة المغيبة تحت جبروت الفقر وسلطان الدين. ثم هو سؤال يتجاهل تاريخ الإسلاميين فى الحكم فى كل بلد ابتلى بالوقوع فى شراكهم الخادعة، ثم هو سؤال مقيد بمقارنة ظالمة بين صندوق كان ثمرة تاريخية ناضجة لنضال سياسى طويل لشعوب أوروبية تقلبت بين جبروت الاستبداد الدينى المتحالف مع الإقطاع وسطوة الاستبداد السياسى البازغ مع عصر الاستعمار. لم يهبط عليهم «الصندوق» من السماء، وإنما خاضوا فى سبيله حروباً أهلية طويلة قبل أن يصير «قيماً» و«نظاماً» و«مؤسسات». فى الديمقراطيات الكبرى كان الطريق إلى «الصندوق» مفروشاً بالدم، قبل أن يصير باباً ملكياً للعبور إلى الحكم وتداول السلطة. وعندما استعرنا «الصندوق» قبل البعض حكمه حتى إذا ما بلغ بهم مقصدهم إلى الحكم، استداروا فأطلقوا عليه رصاص الرحمة! هل تذكر ماذا فعلت «حماس» برفاق قضيتها بعد أن استقوت بسلطة الحكم الذى صعدت إليه فوق ظهر الصندوق، وصفق العالم يومها للديمقراطية الصغيرة الوليدة التى بزغ نجمها فى قلب شرق أوسط مضطرب. مارست حماس خطيئة الإسلاميين القديمة التى اقُترفت من قبل فى الهند عندما انتزعت من الهند -تحت ذرائع دينية واهية- دولة مستقلة للمسلمين هى باكستان، ويا ليتهم حافظوا عليها، فما هى إلا سنوات حتى آلت الأخيرة إلى شطرين، باكستان وبنجالاديش. وبوصول حماس إلى الحكم صار فى فلسطين سلطة شوهاء برأسين؛ رأس عصى فى غزة ورأس طيّع فى رام الله. وحدة المسلمين، من غير تعميم بالضرورة، مقدمة عند الإسلاميين على وحدة التراب الوطنى، ودولة نقية دينياً ومذهبياً أفضل عندهم من دولة متعددة الأديان والإثنيات. هل كان لنظام حكم وطنى فى السودان أن يقبل قبل حكم الإسلاميين التفريط فى الجنوب وأن ينتصر لخيار الانفصال على خيار الوحدة؟! وهل تتذكر ماذا فعلت الأحزاب التى جيّشتها أمريكا للحرب ضد الاتحاد السوفيتى السابق فى أفغانستان، وكلها أحزاب «إسلامية» المنشأ والمنبت؟! تقاتلت حتى كاد يفنى بعضها بعضاً، وما تبقى منها ابتلعه نظام تعف عن التشبه به أنظمة العصور الوسطى، وهو تنظيم طالبان، تنظيم صنعته الديمقراطية الأمريكية على عينها.
قبل ربع قرن تقريباً، وفى معرض تأسيسنا لمركز الدراسات المستقبلية بجامعة أسيوط، كان السؤال المستقبلى الأوحد الذى استغرق اجتماعنا الأول، وأفنينا فى الإجابة عليه نهاراً بأكمله هو: ماذا لو وصل الإسلاميون إلى الحكم؟ كان للبعض خيال كسيح لا يغامر بالتفكير خارج «صندوق الحزب الوطنى»، بينما كانت القاعدة الذهبية فى الدراسات المستقبلية تقول إن كل السيناريوهات ممكنة، بما فى ذلك أسوأها، ولم يكن هناك أسوأ من هذا الاحتمال.
بعد عامين من ثورة 30 يونيو التى أزاحت كابوس الإخوان عن صدورنا كان هناك سؤال استباقى آخر وهو: ماذا لو استمر الإسلاميون فى الحكم وكانت الأوضاع الإقليمية على حالها تسير من سيئ إلى أسوأ؟ كان لا بد أن تتوقع دولة فاشلة خامسة هى مصر تنضم إلى قائمة الدول الفاشلة فى الشرق الأوسط، العراق وسوريا واليمن وليبيا.
كانت «تعليمات» من التنظيم الدولى على وشك الصدور لتحريك بعض كتائب الجيش المصرى المغوار للحرب إلى جوار داعش والنصرة فى سوريا، فإن عصى الجيش، وحتماً سيعصى، «ففصائل جيش الشاطر» الحر جاهزة للمهمة! وعنئذ سوف تكون حدودنا الغربية والجنوبية والشرقية على اتساعها مفتوحة للتكفيريين وتجار الموت وهم نواة الجيش الحر، سوف تكون كل الحدود أمامهم مفتوحة نحو سوريا، حتى الحدود الإسرائيلية لن تغلق فى طريقهم، ألا يتلقى جرحى جيوش المعارضة السورية علاجهم فى مستشفيات إسرائيلية؟ أولم تقدم الدولة اليهودية دعمها اللوجستى لقوات المعارضة السورية بما فيها الفصائل الإسلامية؟!
إذا ظل الإخوان فى الحكم هل لعاقل أن يراهن على أن تظل خريطة مصر وحدودها المعروفة منذ سبعة آلاف سنة هى نفس الخريطة التى سيرثها أبناؤنا؟ هناك شك كبير أن تبقى حدودنا كما ورثناها عن جدودنا، بل منتقصة مبتورة، ممزقة الأوصال شمالاً فى سيناء وجنوباً فى حلايب وشلاتين، لم يكن بوسع الأمريكيين حتى إذا شطت بهم الأحلام أن يجدوا «أميناً» على مشروع شرق أوسطهم الكبير يبز الإخوان. لهذا لم تكن خيبة أملهم فيهم قليلة! أما ما تبقى من مصر بعد «تشفية» أطرافها، فليبق وطناً سنياً ينعم بالنقاء الدينى الذى لا يكدر صفوه شيعة أو أقباط. سيلحق الأقباط بمصير أشقائهم المسيحيين العرب فى العراق وسوريا، وستتم أكبر عملية تهجير قسرى لجماعة بشرية من وطنهم الأم. سيخير الأقباط بين خيارين تجاوزهما التاريخ؛ إما أن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، أو يبحثوا عن وطن بديل عوضاً عن وطن منحوه لونه ورائحته وطعمه وعُرف بهم اسماً ورسماً!
حتماً سيستبق الإخوان مشاريعهم بإسكات الأصوات المعارضة وقهر الحريات وإغلاق الصحف والفضائيات المستقلة ومصادرة الصحف وتكسير الأقلام الحرة والتنكيل بالمثقفين والمبدعين والفنانين وإعادة هيكلة القضاء والتوسع فى القضاء الشرعى. سوف تصبح مصر «نموذجاً» طالبانياً أو على الأقل «نموذج حمساوى». سيصبح بيد مكتب الإرشاد حق إصدار الصحف وإغلاقها، وستصبح إدارة الرقابة على المطبوعات والمصنفات الفنية بيد «هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» سيحتفظون للمرأة بوظيفتها الموروثة من عهد الجوارى والحريم وهى وظيفة الإمتاع والمؤانسة وستُختزل حقوقها فى حق الإنجاب المنفلت من غير قيود!
وفى هذا السيناريو يُتوقع أن يكون التعليم عرضة لتوجهات غير حداثية، ولإملاءات طائفية ومذهبية، ولاستبعادات عنيفة لمجالات معرفية بعينها، ولفئات اجتماعية كثيرة يتصدرها الإناث، ولأداءات تربوية خلاقة يتصدرها الاختلاط فى مؤسسات التعليم.
أما إذا قُدر لمصر أن تتحرك بقواها المدنية لمقاومة هذا المشروع فهى إذن الحرب الأهلية التى لن يواجه فيها المصريون الإخوان وحدهم، وإنما معهم جيوش مجلوبة من فلول العرب الأفغان والألبان الذين لا يملكون شيئاً يخسرونه أو يخافون عليه. عندئذ كان لا بد من قوة منظمة تعطل مسارات الاندفاع نحو هذا السيناريو الكارثى. وكان الجيش المصرى البطل هو القوة المنظمة التى أوقفت الاندفاع نحو الكارثة.