فى الدول التى بلغت درجة يعتد بها من التطور السياسى يكون الاعتماد أساساً على المؤسسات فى رسم السياسات ومراقبة تنفيذها مع ترك هامش معقول لدور الرأى العام كمدخل من مدخلات عملية صنع القرار، أما فى الحالات التى لم يتبلور فيها مفهوم الدولة أو تضعف فيها الدولة لسبب أو لآخر، فيجلس الشعب فى موقع صانع القرار يحدد ما يجب وما لا يجب ويعلق على أكثر الموضوعات فنية وتعقيداً بحس الخبير العالم ببواطن الأمور. فى مجتمع أثينا كان مثل هذا الأمر ممكناً عندما كانت ساحة واحدة تتسع لكل الشعب وعندما كانت الاحتياجات الأساسية محددة بأكثر الطرق تقليدية وبساطة، اليوم نتكلم عن الأمن الإنسانى الذى يتجاوز المفهوم العسكرى ليشمل أبعاداً اقتصادية وسياسية واجتماعية وحتى ثقافية، والمفهوم العسكرى نفسه شهد تطوراً واسع النطاق فقلما صارت الجيوش تشتبك أو وتتواجه.
أقول ذلك لأن غياب البرلمان فى مصر جعل الرقابة الشعبية المباشرة هى الوسيلة الوحيدة لتقييم أداء المسئولين التنفيذيين فلا يوجد مجلس نواب يستدعى هؤلاء المسئولين للسؤال والاستجواب وقد يدعو إلى سحب الثقة. ومثل هذه الرقابة المباشرة فى غياب البرلمان قد تتأثر بالمصالح والأهواء التى تمسها قرارات المسئولين التنفيذيين، كما أنها ليست متاحة لكل أحد بل بالأساس لأصحاب الحظوة من مستخدمى وسائل التواصل الاجتماعى ممن يمكنهم تنظيم الحملات الإعلامية والحشد لها والضغط لتحقيق أهدافها.
فى عدد جريدة «الشروق» المصرية، الصادر يوم الجمعة ٢٤ يوليو الحالى، نشر حوار موسع مع وزيرة القوى العاملة الدكتورة ناهد عشرى، ومعروف أن السيدة تعد واحدة من ضمن مجموعة من الوزراء تستهدفهم حملات إعلامية منتظمة تدعو لإقالتهم. وفيما يخص الحملة الموجهة ضد وزيرة القوى العاملة تحديداً فقد رفعت شعارات من نوع «كارت أحمر» و«مش عايزينك»، وقام منظمو تلك الحملات بجمع توقيعات العمال عليها. فى الحوار المنشور أثيرت بعض أهم القضايا الخلافية بين الوزيرة وبين المطالبين برحيلها وتحديداً قضية الجامعة العمالية التى يتهمون الوزيرة بـ«تدميرها»، وقضية موقفها من النقابات المستقلة الذى يوصف بالتعسف و«محاباة الاتحاد الحكومى»، وقضية توفير فرص عمل للشباب التى توصف جهود الوزيرة حيالها بـ«عدم جديتها». كقارئة لفت نظرى أن السيدة الوزيرة لجأت فى ردودها إلى أسلوب الهجوم كخير وسيلة للدفاع ولم يكن هجومها على كل حال موفقاً، ففى ردها على قضية الجامعة العمالية ذكرت «الجامعة العمالية لا تعنينى فى شىء تقع أو تقوم، أبهدل نفسى ليه فى الجرايد وأنا لن أستفيد بشىء من ورائها»!، وبطبيعة الحال فإن أول ما يتبادر لذهن القارئ هو كيف يصرح مسئول بأن صرحاً كبيراً مثل الجامعة العمالية يدخل فى زمام وزارته بشكل مباشر لا يعنيه أمره بل يعتبر أن عدم إفادته منه مبرراً لعدم الاهتمام به. لفت نظرى ثانياً أن السيدة الوزيرة تتعامل مع الأرقام فى مسائل لا تعرف أبعادها إلا لو ترجمت لإحصائيات، ففى حديثها عن اتحاد عمال مصر القومى الذى تتهم بتفضيله على سواه من النقابات المستقلة ذكرت أن أعضاءه يبلغون ٤ ملايين عامل ودليلها على ذلك أن رئيسه «جايب جواب مختوم وموقع منه بقرار من الجمعية العمومية»!، هنا يكون السؤال أين هو هذا الاتحاد المستقل العملاق الذى يضم هذا العدد المهول من الأعضاء وكيف يمكن أن تكون ورقة موقعة ومختومة وليست قوائم اشتراكات الأعضاء هى سند الإثبات ودليله؟، تكرر الأمر عندما ردت السيدة الوزيرة على فرص العمل التى أتاحتها للشباب بأنها «مئات الآلاف» وهو رقم على شاكلة الأربعة ملايين عضو فى اتحاد مصر القومى، لا هو يحدد قطاعات التشغيل ولا هو يشير إلى ما إذا كان التشغيل تم داخل القطاع الحكومى أم خارجه، هذا إلى جانب أن «مئات الآلاف» رقم يبدأ من ثلاثمائة وينتهى عند تسعمائة وتسعة وتسعين ألفاً، فأى الحدين يا ترى هو المقصود؟
أثار انتباهى ثالثاً أنه مثلما بات يحدث فى مشاكل أى مسئول مع المواطنين لا بد أن يُتهم أحد الطرفين بالانتماء للإخوان، ففى هذا الحوار تحدثت السيدة الوزيرة عن خلايا إخوانية، بل حددت عدد أعضاء تلك الخلايا بـ١٣ شخصاً يتولون مراكز قيادية، أى إن الحملة على الوزيرة وراءها الإخوان، ويختلف ذلك مثلاً مع الحملة التى تستهدف وزير الثقافة وتصفه هو نفسه بأنه إخوانى الهوى لأنه تخلص من بعض أبرز قيادات العمل الثقافى الكفؤة لكنها معروفة بليبراليتها، أى إن الوزير هنا شخصياً من الإخوان. أعلم أن الإخوان متغلغلون لكن عندما يوضع الإخوان فى الموقف وعكسه من المهم البحث عن أسباب أخرى لعدم الرضاء عن أداء السادة المسئولين.
أخيراً، لم أرتح كثيراً لتكرار الزج باسم الرئيس فى الحوار ولا بالقول إنه «لن يضار عامل واحد فى حكومة محلب» فالأمر يتعلق بالسياسات العامة ولا شأن له بمنفذيها سواء كان «محلب» أو غيره.
هل أخرج غداً لأنضم إلى قافلة المعارضين لوزيرة القوى العاملة لأن حديثها أثار قلقى وهى تحدثنا بهذه الخفة عن الأرقام، وتفكر فى حل مشكلة العمالة العائدة من دول الربيع العربى من خلال «محاولة فتح أسواق جديدة فى دول أخرى (أخرى!!) كالسعودية والكويت»، وتفرّط بيسر مدهش فى منشآت كبرى لأنها تتسبب فى «البهدلة»؟
فى غياب البرلمان، نعم سوف أفعل ذلك ومثلى آخرون، وقد يخلفها من لا يعجبنى حديثه فأكرر المعارضة وأتمسك بالإقالة، أما حين ينتخب مجلس للنواب فتكون ساحته ولجانه وأدواته البرلمانية هى المناط بها هذا الدور بتأنٍّ ودراسة وعمق؛ فعجّلوا بالانتخابات البرلمانية أثابكم الله.