فى سبتمبر 2014 صدر كتاب «النظام العالمى» لوزير الخارجية الأمريكى الأسبق هنرى كيسنجر، ويُعتبر الكتاب بمثابة بحث يطرح فيه رؤيته عن النظام العالمى، وهو سلسلة من التأملات فى النظام العالمى تبدأ من اللحظة التى توافقت فيها القوى العالمية على نظام لسير العلاقات الدولية، ثم التوقيع على معاهدة وستفاليا فى عام 1648 بنهاية حرب الثلاثين عاماً، وانتهاءً بيومنا هذا، ويقول كيسنجر إننا أمام نقطة تحول تاريخية، فانهيار الاتحاد السوفيتى لم يؤدِّ إلى نهاية التاريخ وقبول العالم بالقيم الغربية، ولكن بدلاً من ذلك، تواجه العالم الحر تحديات من قوى جديدة صاعدة، وإن التهديد الرئيس مصدره صعود الصين وصدامها مع القطب الأوحد وهو الولايات المتحدة، فالصين ترفض أن تلعب دوراً فى نظام عالمى لم تشارك فى تشكيله، ولا تقبل بقواعد لم تساهم فى وضعها. ويبدأ كيسنجر كتابه بوضع تعريف لمصطلح النظام العالمى بأنه «مفهوم تتبناه منطقة أو حضارة معينة حول طبيعة الإجراءات الصحيحة، وتوزيع السُلطة التى يُعتقد أن تنطبق على العالم كله»، وأشار إلى أن أى نظام من هذا النوع يقوم على عنصرين هما: - مجموعة من القواعد المشتركة المقبولة التى تضع حدود الممارسة المسموح بها.
- وتوازن فى القوى يفرض ضبط النفس عند كسر القواعد، ويمنع أن تقوم وحدة سياسية واحدة بإخضاع الآخرين. ويشير الدبلوماسى الألمانى فولفجانج إيشنجر فى مقال له حول الكتاب نُشر فى مجلة العلاقات الخارجية «فورين آفيرز» إلى أن الكتاب يقدم بعض التعليقات الحادة بشأن النقاش الدائر حالياً فى واشنطن حول الدور المناسب للولايات المتحدة فى العالم، ولأن كيسنجر ليس مجرد ناقد فهو يعتمد فى تحليله على التنقيب العميق لشقين متنافسين من الفكر الذى شكّل السياسة الخارجية للولايات المتحدة من الناحية التاريخية: (البراجماتية الواقعية للرئيس ثيودور روزفلت، والمثالية الليبرالية للرئيس وودرو ويلسون)، وبالإشارة إلى عدد من الحروب ذات الأهداف بعيدة المدى التى شنتها الولايات المتحدة ثم اضطرت إلى وقفها فى منتصف الطريق، لا يُخفى كيسنجر شكوكه حول المشاريع المثالية التى تفشل فى إدراك حدود القوة الأمريكية وتؤدى إلى الشعور بخيبة أمل، إن لم تُسبب كوارث كبيرة فى السياسة الخارجية، يقول: «النقّاد سوف يعزون هذه الانتكاسات إلى النقائص الأخلاقية والفكرية لزعماء أمريكا، وربما يخلص المؤرخون إلى أنها نتيجة عدم القدرة على حل التناقض: حول القوة، والدبلوماسية، والواقعية، والمثالية، والسُلطة، والشرعية، ذلك التناقض الذى يُقسّم المجتمع بأسره»، وعلى الرغم من أنه يعترف بدور واشنطن الخاص كمدافع عن المعايير الغربية، فهو يؤكد أيضاً أن النظام العالمى لا يمكن أن يتحقق من قبَل أى دولة بمفردها، وتظل القوى الأوروبية هى الشريك الطبيعى للولايات المتحدة، ويؤكد كيسنجر أن الأفضل لهم جميعاً هو دعم علاقتهم، والعمل ليس فقط لتحقيق أقصى قدر من المستوى العام للنفوذ الغربى فى الشئون العالمية ولكن أيضاً لكبح جماح الدوافع السيئة لبعضهم البعض. وبالنسبة لعرض وجهة نظر الإسلام للنظام العالمى يعتمد كيسنجر على تمييز بعض فقهاء الدين الإسلامى بين «دار السلم» وهى الأراضى الإسلامية نفسها، و«دار الحرب» وهى بقية العالم، وهو الرأى الذى تتبناه جماعات الإرهاب والتطرف، ويستخدم كيسنجر هذه الفكرة كمنصة إطلاق لتفسير لماذا الإسلام، فى تقديره، رافض لأى نظام غير هذا فى الماضى أو فى المستقبل، وطبقاً لهذا الفهم فهو يُبرز الجهاد فى الكتاب كهدف بحدّ ذاته، غير مرتبط بهدف آخر، إلا الجهاد من أجل الجهاد، للقضاء على النظام العالمى برمّته وفرض «دار الإسلام» على البشرية جمعاء، ويربط كيسنجر بين إيمانه بالنزعة الدينية الجهادية لعموم المسلمين وخطرها على النظام العالمى وسيادة الدول، وبين التاريخ ما قبل الإسلامى والرغبة فى السيطرة الإمبراطورية.
فى بداية الفصل عن الإسلام، يُقدم كيسنجر توضيحاً أن الآراء التى انتقاها إنما تُمثل واحداً فقط من آراء عديدة شكّلت الفكر الإسلامى، وتعاطيه مع العالم، وهذا صحيح، ولكنه لا يجيب على السؤال عن السبب فى اختيار هذا الرأى تحديداً لتمثيل وجهة النظر الإسلامية من بين وجهات نظر غنية جداً ومتنوعة أنتجتها عشرات من المدارس الفكرية الإسلامية على مرّ القرون الماضية؟ ولماذا تجاهل ما يسمى فى فقه القانون الدولى فى الإسلام «دار الصلح » أو «دار العهد»؟ هل ذلك سببه أن كيسنجر يريد إقناع العالم بأن جماعات مثل «الدولة الإسلامية فى العراق والشام»، والجهاديين السلفيين الآخرين، تمثل أهم الفكر الفاعل بين المسلمين اليوم؟ وأنه من المحتمل أن تشكل مستقبل تفاعل الإسلام مع العالم؟