الروائي والكاتب الكبير جمال الغيطاني، اليوم عليلًا، يعاني من حالة مرضية خطيرة، ويخوض لأول مرة معركة شخصية وإنسانية ضد مرضه، بحيث لا نملك أن نقدم له فيها دعمًا غير الدعاء بالشفاء، وأن يعود إلى أهله وأحبابه وجموع قراءه سالمًا وفي أحسن صحة وحال، ليخوض معارك ثقافية ووطنية جديدة، كتلك التي خاضها عبر حياته الماضية، ضد أعداء الحياة والحرية والروح والخصوصية والثقافة المصرية.
وجمال الغيطاني، نموذج يحتذى به للمثقف والكاتب العصامي، الذي اجتهد لتكوين نفسه وامتلاك أدواته ككاتب، عبر حياة طويلة وعميقة لم يعرف فيها يوماً رفاهية التأمل والمراقبة الهادئة للواقع من شرفات البرج العاجي، لأنه عاش دومًا في قلب الأحداث، وقريبًا من فضاء الشارع بصخبه وحراكه وتنوع نماذجه البشرية.
ولأن المعدن والجوهر الحقيقي للإنسان، لا يظهر في لحظات الراحة والطمائنينة، ولكن في لحظات التحدي والصراع، فقد عاش الأستاذ جمال الغيطاني طوال حياته الطويلة والعميقة، يخوض معارك وطنية وثقافية عامة أظهرت معدنه المصري الوطني الأصيل، كان أبرزها معركته مع وزير الثقافة " المزمن " فاروق حسني في تسعينيات القرن الماضي، ورفضه لمجمل سياسات الوزير الثقافية.
وكذلك معركته في بداية الألفية الحالية، مع ما اسماه رأس مال خليجي متوحش، يستهدف الفن والثقافة والمصرية، وفيها هاجم بشدة الأمير الوليد بن طلال، وطبيعة النشاط الذي يمارسه في مصر، وقد تمحور هجومه عليه حول أمرين: الأمر الأول، الأبراج التي اقامها الوليد بن طلال في القاهرة، والتي تتنافى مع العمارة العربية المميزة، وما أثير في حينه عن رغبة الأمير في ردم قطاع من النيل، حتى يكون جراجًا لأحد فنادقه. الأمر الثاني، يتعلق بطبيعة الدور السلبي الذي يمارسه الأمير في الفن المصري؛ مثل شراء حقوق استغلال بعض المطربين المصريين وتسقيعهم، لصالح بروز مطربين عرب وخليجيين أخرين.
وكذلك معركته الدائمة مع التيار الديني الوهابي الذي يستهدف الشخصية والخصوصية والهوية المصرية، وتجلياته المُستنسخة في الواقع والمجتمع المصري، وفيها صرح بأن هناك أثار ثقافية سلبية على الواقع الثقافي المصري من المؤثرات الوهابية، وأن من حقه كمثقف مصري أن ينقدها ويرفضها، لأن الوهابية لا يمكن أن تكون صالحة للتطبيق في مصر بلد الأزهر، التي عاشت عبر تاريخها الطويل مناخ تسوده التعددية الثقافية والدينية.
وبعيدًا عن هذه المواقف والمعارك، فلقد كان للأستاذ الغيطاني، آراءً أصيلة ومتميزة في العديد من الإشكاليات الفكرية، التي تعرض لها العقل العربي في القرن الأخير، مثل موقفه من التراث والخصوصية والهوية الحضارية، ودعوته إلى ما أسماه " حداثة مقلوبة "؛ تبدأ من استيعاب ونقد التراث؛ لأن أي مشروع حداثي لا يستند على ميراثه الحضاري، هو مشروع محكوم عليه بالفشل، ولا يحفظ لنا خصوصيتنا الحضارية.
ومثل قوله إن هذا التراث، هو مجموع دوائر؛ هناك دائرة تحت جلدي، هي التراث العربي، وهناك دائرة تمس سطح جلدي الخارجي، هي التراث الإنساني ككل. مع ملاحظة أن التراث العربي عنده لا يعني التراث الإسلامي فحسب، بل التراث الفرعوني، والبابلي، والآشوري، والعبري، الذي أنصهر في قلب التراث العربي.
هذه بعض مواقف الفارس جمال الغيطاني، أحببت أن أكتبها، واستعيد معها قوله لي في لقاء أخيرًا جمع بيننا، وهو يتحدث عن واقعنا الثقافي المتردي، وأنا أسأله: اليوم تقول " لا " لمن؟ فقال: " أقولها للممثقفين المصريين والعرب، لا للعور الثقافي والفساد الثقافي، لا لخلق معارك هامشية تبدد الوقت والجهد. الآن يجب أن نحارب جميعاً في خندق واحد، هو الخندق الأخير الذي يحافظ على وجودنا، ألا وهو خندق الثقافة. الآن معركتنا المشتركة يجب أن تكون للدفاع عن اللغة، والوجدان، والذاكرة. قضية فلسطين أصلها قضية ذاكرة؛ فاليهود جاءوا من أقاصي الأرض، وخلقوا لهم ذاكرة في هذه الأرض من العدم، ونحن العرب في الطرف الآخر، فقدنا ونفقد باستمرار ذاكرتنا بمخطط وضع لنا سلفًا".
في النهاية لا نملك إلا أن نقول: شفاك الله وعافاك يا حارس المكان واللغة والذاكرة والخصوصة والوجدان.