فتيات ما بعد «الاغتصاب»: طريق النسيان مسدود
فتيات ما بعد «الاغتصاب»: طريق النسيان مسدود
صورة أرشيفية
قبل سبع سنوات من الآن تعرضت (م. ع) لحادث اغتصاب أليم، لا تزال تفاصيله محفورة فى ذهنها، تلك الملامح التى انتهكت براءتها، تأتيها من حين لآخر بصورة مهزوزة تفتك برأسها الملىء بالتفاصيل، التى كثيراً ما ترعبها، حتى ذلك الطريق الذى وقف صامتاً أمام جراحها الكبرى بات هو الآخر دليلاً دامغاً على آلام لم تمحها الأيام ولا السنين، رغم استقرار حياتها الاجتماعية وتزوجها بعد ذلك الحادث بفترة وجيزة، (م. ع) البالغة من العمر 29 عاماً تحكى عن تلك الواقعة وتقول: «كنت فى آخر سنة فى كلية التجارة جامعة القاهرة وكانت إقامتى فى سكن للمغتربات وأثناء رجوعى إلى السكن، بعد يوم شاق من المحاضرات فى الجامعة ركبت سيارة أجرة على طريق المنيب، وأثناء الطريق ونزل جميع الركاب إلا راكب واحد والسائق»، اتفق الاثنان فيما بينهما على انتهاك براءة الفتاة وبالفعل اغتصباها لمدة ساعة كاملة داخل الميكروباص ثم ألقياها تنزف فى دمائها بجانب أحد صناديق القمامة على الطريق، حاولت أن تلملم ملابسها الملطخة بالدماء، التى تمزق بعضها بفعل الاعتداء، وذهبت إلى صديقتها المقربة فى السكن وأبلغتها بما حدث لها، وجسدها ينتفض من هول ما كان، اتصلت هذه الفتاه بأهلها فى نفس اليوم، ليشد أبوها وإخوتها الرحال إلى حيث تسكن ويعيدوها إلى بلدها سوهاج وتم حبسها بالمنزل وعدم استكمال دراستها الجامعية، كانت الصدمة كبيرة والفاجعة لم تمر بسهولة، وهو ما دفعها للانتحار أكثر من مرة، سوء حالتها النفسية والرعب الذى بات ونيسها فى ذلك التوقيت دفع أباها إلى الذهاب بها إلى طبيب نفسى بعيداً عن البلدة التى يعيشون فيها، سافرت بها والدتها وأخوها لدكتور نفسى بالقاهره واستغرق علاجها عاماً ونصف العام، وتبعتها بعام آخر مع ذلك الطبيب حتى لا تحدث لها انتكاسة.
إحداهن حاولت الانتحار مرتين.. وعلماء الطب النفسى: العلاج يستمر لسنوات
تؤكد (م. ع) أن العلاج انقسم إلى جلسات نفسية وعلاج بأقراص دوائية، وتعتقد أن هذا العلاج سبب لها ظهور بعض الهلاوس لفترة من الوقت، والآن تحمد الله أنها تعيش حياة مستقرة مع زوج متفاهم، وربما كانت المفاجأة لها أنه أحد الأطباء الذين ساعدوها على تجاوز الأزمة بعدما تعاطف معها ووقع فى حبها وقرر الارتباط بها والعبور بها إلى بر الأمان.
دكتورة سحر طلعت دكتورة الباثولوجى بجامعة القاهرة والمستشارة النفسية والاجتماعية فى مؤسسة نادى المغتصبات، واحدة ممن حاربوا الاغتصاب بجلسات تأهيل نفسى لهن، تحكى عن فكرة النادى وإنشائه، الذى استمر لعدة سنوات على موقع «إسلام أون لاين» ثم توقف بسبب غلق الموقع، حيث بدأ كنادٍ على الإنترنت للفتيات اللاتى تعرضن لمشاكل التحرش والاغتصاب وكانت الفتيات ترسل رسائل عن مشاكلها عبر الإنترنت وبسرية تامة، حيث تدخل أغلب الفتيات بأسماء مستعارة ويشرحن مشاكلهن كاملة، وبعد ذلك كان النادى يقوم بإعداد تدريب للفتيات فى كيفية الخروج من الأزمة.
وتؤكد رغم توقف النادى الخاص بها فإنها تسعى لإنشاء نادٍ جديد بنفس الفكرة، وتريد أيضاً إنشاء جمعيات مثل ذلك على أرض الواقع وليس على الإنترنت فقط، ولكنها لا تجد الدعم الكافى، وأنها تتمنى استمرار برامج الوقاية وتغيير وجهة النظر تجاه الفتاة التى تتعرض للاغتصاب، وأنها ما زالت على اتصال بكثير من تلك الفتيات وما زلن يطلبن منها العون فى العديد من المشكلات التى تواجههن.
ويؤكد الدكتور محمد حسام، المدرس بجامعة عين شمس واستشارى الطب النفسى بمستشفى الطب النفسى بمصر الجديدة، أن مثل هذه الواقعة قد تستغرق نصف ساعة لكن مدة مراحل العلاج النفسى تكمن فى العوامل النفسية التى تحدث بعد الواقعة، أولاً إحساس الشخص فى وقت الواقعة، وثانياً طبيعة شخصيته والطريقة التى يستقبل بها ما حدث، فإحساس القهر والضغط النفسى للشخص، بمعنى أنه لا يمكنه مساعدة نفسه ولا يمكن لأحد أن يساعده ولا يجد أملاً فى الخروج من الأزمة، فيولد ذلك عنده شحنة نفسية سلبية وضغطاً نفسياً قوياً جداً، يولد تراكمات نفسية لا تنتهى بانتهاء الموقف ويستمر هذا الشعور فترة كبيرة جداً.
ويتعامل الطبيب مع المريض حسب شخصيته، فهناك الشخصية العنيدة التى تظل طوال فترة الاعتداء تقاوم وتعافر ستحكى الواقعة لأهلها وستذهب لطبيب وستكون أخف وطأة عليها لأنه وعلى حد قوله: «اللى هتتكلم هترتاح»، وتوجد شخصية انهزامية مستسلمة فتعيش بتأنيب ضمير بعد الحادثة لوقت طويل جداً.
ويوضح حسام أن ما يحدث بعد الواقعة يسميه الطب «اضطراب الكرب ما بعد الصدمة»، وذلك أن طوال الوقت يتذكر الدماغ الشخص أو المكان، فبمجرد رؤية شخص يشبهه أو المرور من نفس المكان تحس بألم نفسى شديد فتعيش فى حالة من التوتر والحذر والترقب، كما أنها تصاب بالفزع من أى صوت، لأن الاستجابة العصبية عندها تكون عالية جداً.
ويؤكد حسام أن المرحلة العمرية تفرق كثيراً فى العلاج، لأن الأطفال لا تستطيع التعبير عما بداخلها، لكن سيظهر فى سلوكهم ولعبهم، فنجد الطفلة تلعب ألعاباً غير مناسبة للتطور الطبيعى لعمرها، وتأثير الحادثة يكون أخف وطأة عليها، وربما لا تتذكر منها شيئاً بعد مرور وقت، لكن إذا كانت فى فترة المراهقة فستترك الحادثة أثراً قوياً على نفسيتها.
ويشرح محمد حسام مراحل العلاج من الناحية الطبية بأن الجلسات النفسية تعتمد على جانبين مهمين، فيتعامل الدكتور مع المريض وأسرته، لأن فى هذا الوقت تشكل الأسرة ضغطاً كبيراً على المريض، ويقول مستنكراً «إحنا بنعالج من ناحية وأسرته بيبوظوا من ناحية»، وذلك لأن الأسرة لديها حالة من الإنكار غير مستوعبة أن ابنتهم تم الاعتداء عليها فتسقط على البنت التهم كاتهامها بعدم ارتداء ملابس مناسبة، والجانب الآخر جلسات تفريغ نفسى للمريض بأن يحكى كل شىء والتفاصيل مهمة، وتحتوى الرسائل المعالجة للمريض على تحليل المشاعر، بمعرفة المشاعر وقت الحادث، والمشاعر الآن، ثم تحليل الأفكار كالفكرة التى تسيطر على البنت بأنها لم تعد كباقى البنات، ثم السلوكيات بأن الحل ليس فى الهروب من المشكلة، ثم يأتى بعد ذلك العلاج الدوائى لأن هذه الحادثة تحدث خللاً فى المواد الكيميائية فى الجسم، وفى النهاية توجد بوادر أعراض انتكاسة، عند الشعور بها من الفرد أو الأسرة لا بد من الرجوع للطبيب.
ويشير حسام إلى أن مدة العلاج تتراوح فى الغالب من 6 إلى 9 أشهر، وبعض الحالات تستمر مدة العلاج لسنوات طويلة مع وجود فترات للمتابعة بعد العلاج.
فيما أكد حسام أن المجتمع عليه دور كبير للقضاء على تلك الظاهرة، فلا بد للأسرة أن تضع قواعد وترسخ مبادئ تتعلق بالقيم الأخلاقية والاجتماعية فى نفسية الطفل حتى تنمو شخصيته بشكل سوى، كما لا بد أن يعتاد الطفل على التعامل مع الفتاة ويحترمها كأخته وهو ما يحد من هذه الظاهرة، كما يجب على كل منا تفريغ طاقته السلبية والإحباط فى أشياء مفيدة كالإنهاك فى العمل أو ممارسة الرياضة.
سحر
حسام