السياسة فى مصر مباراة تجرى على مستويات عدة. هناك مستوى الدولة وفيه أهل الحكم النافذون المتمركزون فى أجهزة التنفيذ والأمن، التى التحق بها مؤخراً جهاز العدالة. وهناك مستوى النخب السياسية المهتمة بقضية نظام الحكم وعلاقة الدولة بالمجتمع وبالتأثير على السياسات العامة للدولة فى هذا الاتجاه أو ذاك، وهى نخب تتكون من المثقفين وأصحاب المصالح الكبرى الذين تتأثر مصالحهم بشكل مباشر بالقرارات التى يتم اتخاذها داخل أروقة الدولة. وفى المستوى الثالث توجد السياسة المحلية، وفيها تتنافس النخب المحلية ورموزها على المكانة والنفوذ.
نخبة الدولة تحكم طوال الوقت من أروقة مغلقة بعيداً عن أعين عموم الناس. وهى نخبة تبدو للناظر من الخارج موحدة لكنها فى الحقيقة منقسمة بين هيئات وأشخاص وشلل تجبرها قواعد العمل فى الدولة -وخاصة الاشتراك فى الخضوع لرئيس الجمهورية- على التمسك بحد أدنى من مظاهر الوحدة.
نخبة السياسة تحاول كسر احتكار أهل الحكم ومشاركتهم بعض مما لهم من نفوذ، ساعية لتعديل السياسات العامة فى اتجاه يناسبها. انقسام نخبة السياسة على نفسها هو أمر واضح لا يحاول أهل النخبة إخفاءه، فالتعدد والتنوع هو طابع الأمور بين نخب السياسة. بعض هؤلاء يكاد يتماهى مع أهل الحكم ونخبة الدولة حتى تكاد الخطوط الفاصلة بين الفريقين أن تنمحى. بعضهم الآخر له مصالحه المتمايزة ويحرص على قدر من الاستقلال إزاء أهل الدولة والحكم، وإن كان يسعى للتعاون معهم لتحقيق مصالح مشتركة من موقع الاستقلال وقدر من الندية، وهو الاتجاه الذى بدأت بعض ملامحه فى الظهور على بعض أصحاب المصالح الاقتصادية الكبرى. البعض الثالث من أهل النخبة اختار لنفسه موقع المعارضة الصريحة، وإن من داخل النظام. المصالح التى يعبر عنها هؤلاء مجردة وغير محددة، وهم يستعيضون عن ذلك بوضوح المبادئ التى ينطلقون منها ويدافعون عنها.
النخب المحلية لها عالمها الخاص، لا يشغلها كثيراً ما يفعله أهل الحكم ولا ما تسعى له النخب السياسية، والانتخابات هى فرصة هؤلاء أكثر من أى فريق آخر لإظهار قوتها وتثبيت مواقعها. المترشحون من النخب المحلية تقف وراءهم جماعاتهم المباشرة من شركاء العصبية والمنتفعين من النفوذ والمال، وكلما كبر حجم جماعة الدعم المباشرة زادت فرصة المترشح فى الفوز. ناخبو الدائرة من خارج جماعات الدعم المباشر للمرشحين يختارون التصويت لهذا المرشح أو ذاك بناء على عوامل تتعلق بطبيعة علاقتهم بالجماعة التى يمثلها النائب، وبجدارة المرشح نفسه، وهو أمر يتم حسابه وفقاً لمعايير محلية أساساً، ووفقاً لحجم المنفعة المباشرة وغير المباشرة التى ستعود على الناخب من نجاح المرشح.
للصوت الانتخابى لدى الناخب معنى يختلف عما تراه النخب السياسية، خاصة نخبة الرأى والمبادئ، فالإدلاء بالصوت بالنسبة للناخب ليس مجرد عملية إدلاء بالرأى، ولكنه يتعلق بمكافأة المرشح، أو رد الجميل له، أو المراهنة على مصلحة مباشرة يتم تحقيقها فوراً أو فى المستقبل.
الناخب لا يشغل نفسه كثيراً بالآراء التى سيعبر عنها النائب فى المجلس، فالناخب ما زال غير مقتنع بأن مجلس النواب يقوم بدور حقيقى فى صنع سياسات الدولة، فالدولة وسلطتها التنفيذية كيان قائم بذاته له استقلال كبير عن المجتمع، يرى الأمور من منظور أوسع بكثير من أن يفهمه الناخب، ولأهل الدولة مصالحهم التى يعرفون كيف يحمونها بغض النظر عن رأى جموع الناخبين. وحتى تقترب الدولة من المواطن، وحتى يبرهن مجلس النواب على قدرته على التأثير فى سياسات الدولة، وحتى يجد الناخب فى نفسه القدرة على التأثير فى سياسات الدولة عبر الانتخابات، حتى يحدث كل هذا فإن الناخبين سيواصلون الانصراف عن السؤال عن الآراء التى سيعبر عنها نوابهم فى مجلس النواب تجنباً لإهدار الوقت فيما لا يفيد.
الناخب لا يختار المرشح الذى يتفق معه فى الرأى، ولكنه يختار التصويت للمرشح الذى يمكنه الوصول إليه والتحدث معه فى شكواه، والذى يتوقع منه العمل على تحقيق مطالبه الصغيرة. فالنائب فى النهاية كما يراه جموع الناخبين هو واسطتهم للوصول إلى الدولة البعيدة المتعجرفة متقلبة المزاج التى لا يفهم الناخب لسياساتها منطقاً محدداً.
الناخبون لا ينتظرون الكثير من وراء انتخابات مجلس النواب ومن يمثلهم فيه. إنه تراث قرون طويلة من الحياة فى ظل دولة متعالية بعيدة لا يمكن الوصول لها ولا التأثير فيها، وإن كان من الممكن أحياناً الحد من مظالمها عبر واسطة يقوم بها النائب أو غيره من أهل الحظوة، أو عبر احتجاجات محدودة لا تهدف إلى إسقاط الدولة أو إزاحة أهل الحكم وإنما إجبارهم على التراجع عن بعض مما يراه الناس جائراً من السياسات والقرارات.
آراء المرشحين لا تلعب دوراً مهماً فى تحديد اتجاهات تصويت الناخبين، ويكفى للناخب أن يكون مطمئناً إلى أن آراء مرشحه المفضل تقع فى منطقة المقبول من الآراء الوسطية التى لا تتطرف فى هذا الاتجاه أو ذاك. منطقة المقبول من الآراء الوسطية تتغير حدودها يميناً ويساراً مع التغير فى المجتمع والثقافة واتجاهات الدولة. العقود الأربعة الماضية شهدت تحولات سمحت للتيارات الإسلامية بالتسرب إلى منطقة الوسط المقبول، فانتخبهم الناس ضمن من انتخبوا. انتفضت الدولة والنخب السياسية ضد الإسلاميين وقرروا طردهم من منطقة الوسط المقبول، فانفض الناس عنهم.
مبادئ نخبة الرأى رائعة وأحلامهم كبيرة إلى درجة لا تقنع الناخبين بتصديقها. لغة المصلحة التى يجيدها أصحاب المصالح الاقتصادية الكبرى ومرشحوهم تنسجم مع الطريقة التى يفهم بها الناخبون معنى الصوت والانتخابات، فهل تستطيع نخبة الرأى التحدث بلغة المصلحة بطريقة يفهمها الناخبون؟