«ن النسوة» تتحدى التقاليد والقمع والتهميش: «إحنا مش كمالة عدد»
«أم عصام» فى سوق سليمان جوهر
نماذج من النساء بالآلاف بل بالملايين نقابلهن كل يوم فى الشارع، وفى مختلف الحرف والمهن والوظائف، يناضلن من أجل الاستقلالية، ينفقن على أنفسهن، بل يتكفلن أحياناً بإعالة أسرهن إعالة كاملة، يؤكدن على دورهن فى الاقتصاد الوطنى، وأنه كلما زادت الظروف المجتمعية والاقتصادية صعوبة، تصاعدت قدرة المرأة على التحمل والاعتماد على الذات. «الوطن» ترصد نماذج لنساء مستقلات، كما يفسر علماء الاجتماع تزايد ظاهرة استقلالية المرأة فى المجتمع المصرى فى الآونة الأخيرة.
«أم عصام» أكبر تاجرة خضار فى سليمان جوهر: «عمرى ما قبلت جنيه من حد.. وبشتغل حتى بعد ما عديت الـ60».. و«ثريا»: «الفتيات يرفضن الزوج الذى يشترط البقاء فى المنزل».. «هانى»: إذا رفض الرجل أحلام المرأة فإنها تفضل الحياة بدونه»
فى سوق سليمان جوهر بالدقى، تجلس سيدة تجاوزت الستين من عمرها، مرتدية عباءة سوداء، وطرحة خفيفة لا تحجب الكردان القديم المتدلى عن عنقها، صوتها ذو نبرة قوية، يدل على شخصيتها، تظهر المجوهرات التى تزين معصمها، والحلق الضخم الذى يتدلى من أذنيها، تفتخر بكونها الشجرة الأم للعائلة، فقد ربت بمفردها أربعة أبناء، ولدين وبنتين، وعدة أحفاد، تقول بفخر، وهى ترش المياه على الخضار: «قعدة البيت للناس المدلعة، أما الناس اللى شافت قسوة الحياة، مش هيفرق معاها حاجة».
تحكى أم عصام أن زوجها توفى منذ 35 سنة، وترك لها أبناءها الأربعة، لتربيهم بمفردها، وأنها اعتمدت على نفسها طوال مشوار حياتها حتى الآن، تتذكر الأيام والليالى الطويلة التى قضتها فى الشارع تبيع الخضار والفاكهة، سواء كان الطقس قارس البرودة، أو شديد الحرارة، تقول: «بدأت بشوية خضار فى السوق، كنت بقعد فى زاوية صغيرة من الرصيف، أحضر الأكل الفجر لأولادى، وأنزل أشتغل لحد العشا»، تؤكد أم عصام أن كفاحها تكلل بالنجاح، حيث ازدهرت تجارتها، وتحولت مع مرور الوقت إلى أكبر تاجرة خضار فى سوق سليمان جوهر.
ذاع صيتها بين الباعة والتجار فى السوق، بتقديمها كافة أنواع الدعم لكل من يمرون بأزمات مالية أو عائلية، تؤكد «أم عصام» أنه فى كل بيت مصرى نماذج كثيرة لنساء يقاومن وحدهن مصاعب الحياة، باختلاف الطبقات الاجتماعية التى ينتمين إليها، أو مقدار التعليم الذى تلقينه، قائلة: «خلاص الظروف مبقتش زى زمان، هتلاقى ستات بتشتغل فى كل مجال علشان تصرف على نفسها». تحكى عن عدد ساعات عملها التى تتجاوز 10 ساعات يومياً قائلة: «أنا اللى بتعامل مع التجار الكبار، وباخد منهم خضار، ومينفعش فى يوم منزلش شغلى»، تحكى عن بداية يومها الذى يبدأ من الفجر حتى بعد صلاة العشاء، بالرغم من تجاوزها عامها الستين، موضحه أنها لم تقبل فى أى يوم أن ينفق عليها أحد، أو أن تتكاسل عن النزول، بالرغم من أنها لم تعد تحتاج للمال.
وفى منطقة تل الحدادين فى مدينة طنطا محافظة الغربية، تمضى شيماء فؤاد، فتاة عشرينية، بين تلال الحديد المتراكمة، مرتدية ملابس الرجال، نبرة صوتها قوية، يعرفها كل أهالى المنطقة، بأنها «المرأة الحديدية» وبكونها الوحيدة التى تعمل فى تلك المهنة الصعبة، حيث تقوم بنشر وتقطيع الحديد، وتحميل عربات النقل الثقيل بالخردة، وهى المهنة التى تحتاج إلى قوة بدنية كبيرة، تقول شيماء إنها اعتمدت على نفسها منذ طفولتها، حيث تكفلت بالإنفاق على نفسها، حيث لم يكن للرجل يوماً دور فى حياتها، تحدثت عن أبيها الذى انفصل عن والدتها فور ولادتها، ولم يقم بالإنفاق عليها، ما دفعها للعمل باليومية فى أحد المحلات، بأجر زهيد وهى فى عمر التاسعة، وعن حزنها من ضياع حقها فى الالتحاق بإحدى المدارس وتلقى فرصة تعليم، وعن زواجها بابن خالتها، الذى طالبها بالاستمرار فى العمل، والإنفاق على المنزل، ما دفعها للطلاق منه.
«بحب شغلى، ولو قعدت يوم فى البيت من غير شغل بعيَّا»، تقول شيماء، إنها لسنوات طويلة عملت لدى واحد من أكبر تجار الخردة فى منطقة تل الحدادين، وهو الحاج نادى السباعى، الذى قدم لها فرصة عمل فى مهنة ليس للنساء فيها نصيب، بعدما اختبر قدرة تحملها فى العمل لساعات طويلة، واعتماده عليها فى السفر ونقل الخردة لكافة محافظات الجمهورية، سواء وجه قبلى أو بحرى: «فى الشغل أنا زى أى راجل، وكل زمايلى بيعاملونى إنى زيهم بالظبط»، تؤكد شيماء أن الظروف الصعبة التى نشأت، وعاشت فيها، ضاعفت قدرتها على التحمل، حيث تصف نفسها بكونها غير قابلة للانكسار، حيث وفرت لنفسها مسكناً خاصاً، تدفع إيجاره من يوميتها، ولم تخش من كلام الناس على حد قولها. وتضيف «شيماء» أن الصدفة لعبت دورها، حيث تحولت إلى بطلة فيلم وثائقى، تم عرضه فى مهرجان «بى بى سى» فى مدينة لندن ببريطانيا، الذى كان بعنوان «الشيماء» للمخرج عبدالفتاح فرج».
من جانبها، تقول الدكتورة ثريا عبدالجواد، أستاذ علم الاجتماع، بكلية الآداب جامعة المنوفية: «المرأة بمختلف الطبقات أصبحت تندفع نحو سوق العمل، والإنسان عامة يحتاج العمل من أجل أغراض اقتصادية، بالإضافة إلى الرغبة فى تحقيق الذات، وكلما اشتدت الظروف الطاحنة على المرأة اندفعت من أجل إثبات ذاتها والتغلب على تلك المصاعب، والأجيال الجديدة من الفتيات يناضلن من أجل حقوقهن وعملهن أكثر من الأجيال السابقة، فهناك فتيات يرفضن الزوج الذى يشترط عليهن البقاء فى المنزل وعدم الخروج للعمل».
وتضيف: «المرأة المصرية مظلومة فى الإحصائيات التى تصدر عنها، وفيما تمثله من إجمالى الناتج القومى، لأن كثيراً منهن يعملن فى مشاريع تجارية صغيرة، لا يتم رصدها ولا تتم إضافتها فى الإحصائيات الرسمية من نسبة العمال والموظفين، ولكن فى الواقع الاقتصاد المصرى يعتمد على المرأة، وبالرغم من ذلك تبقى هناك الكثير من المجالات التى لا تزال المرأة فى معزل عنها، وإن ساهم الإعلام فى تسليط الضوء على نماذج ناجحة ومشرفة فى مجالات جديدة، ولكن لا تزال المرأة المصرية تواجه عقبات مضاعفة فى العمل». وعن تلك العقبات التى تواجه المرأة، تقول «ثريا»: «المرأة لا يقع عليها عبء إرهاق العمل ودورها فى الأمومة أو فى رعاية والديها فقط، وإنما تحمل عبء التمييز ضدها، فى كثير من المؤسسات تتلقى النساء مبالغ أقل بكثير مما يتلقاها الرجل الذى يشاركها نفس المهنة والدرجة الوظيفية على وجه التحديد، باعتباره هو رب الأسرة، ونسوا أن المرأة أصبحت هى أيضاً رب الأسرة، أو كحد أدنى هى مسئولة عن الإنفاق على نفسها».
«شيماء» أثناء عملها فى «تل الحدادين»