«مربية اليتامى» التى اختصها «الأبنودى» بواحدة من أشهر قصائد الرثاء
أحفاد «يامنة
حين تنكسر شمس العصارى، كانت تتحرك السيدة العجوز بوجهها الصبوح ناصع البياض، وعينيها اللتين لم تمسهما الشيخوخة، وبجلبابها الأسود الرث، تفتح بابها الخشبى القديم، قبل وفاتها منذ 18 عاماً، ليأتى بنسمات هواء يخفف من وطأة حر الصعيد، وتجلس «يامنة» خلف الباب على أريكتها الخشبية، ممسكة بسبحتها تردد أذكار الصلاة وترمق المارة بنظرات عابرة.
كان المارة يتوقفون أمامها ذهاباً وإياباً، بعضهم يسلم عليها ويقبل يديها، ويكتفى البعض الآخر بإلقاء التحية على «العمة يامنة»، آخر من تبقى من أجداد عائلة «التروسة»، التى كانت تقبع بين جدران منزلها الطينية بقرية أبنود، ذلك المكان الذى وصفه الشاعر الراحل عبدالرحمن الأبنودى فى قصيدته الشهيرة «يامنة» بالقول: «الورث تراب.. وحيطان الأيام طين». وإلى جوارها بابها الخشبى لا تغلقه، ولا تبرح موضعها حتى يحين الليل، فى تجسيد لبيت آخر من القصيدة يقول فيه: «طب ده أنا ليّا ستّ سنين.. مزروعة فى ضهر الباب.. لم طلّوا علينا أحبة ولا أغراب».
أحفاد «يامنة»: كانت تخاف علينا من «الهوا الطاير»
هى الأم والجدة والوتد «مربية اليتامى»، التى كان الأبنودى يركن إليها ويحرص على لقائها، و«يشرب معها الشاى»، ويسبح معها فى أنهار الذاكرة البعيدة، حيث سيرة الأجداد، والبيوت والطين، التى كان لها بالغ الأثر على تلك الموهبة المعجونة بتراب الصعيد وحكاويه القديمة وتراثه الثرى.
80 عاماً، وربما أكثر، عاشتها العجوز، تقول للشاعر فى قصيدته: «عشت كتير.. عشت لحد ما شفتك عجّزت يا عبدالرحمن» هكذا تصف نفسها فى قصيدة الأبنودى «يامنة» كما يناديها المارة بلكنتهم القناوية التى تقلب ياء النداء إلى الاسم الحقيقى للعمة «آمنة مسعود»، زوجة عم الشاعر عبدالرحمن الأبنودى، التى رثاها فى قصيدة شهيرة تحمل اسمها، بعدما وافتها المنية عام 1998، وهى القصيدة التى تعد من أهم وأشهر قصائده، التقت «الوطن» أحفاد «يامنة» ليتحدثوا عن جدتهم وقصتها الحقيقية وعلاقتها بالشاعر الراحل.
داخل منزل من الطوب الحجرى يعيش الشاعر أبوضيف شلبى بمدينة القصير، أصغر أحفاد «آمنة»، يقول إنه عاش فى كنفها صغيراً فى منزلها الطينى بأبنود، بعدما توفيت أمه «نجية»، ويحكى كيف كانت تحنو عليه، يسترجع لمسات يديها على شعره: «كانت بتخاف علينا من الهوا الطاير»، ويعود ليتذكر قولها المتكرر له: «يا قلب يامنة»، فالرجل الثلاثينى لم يعرف له أماً سوى «يامنة» بعدما توفيت والدته فى العام الرابع من عمره.
اسمها الحقيقى «آمنة».. توفى زوجها فى شبابها وأصرت على عدم الزواج لتربية بناتها وأحفادها
كانت «يامنة» جميلة الملامح، حسب رواية «شلبى»، وهو ما أكد عليه عبدالرحمن الأبنودى فى قصيدته، بقوله على لسانها: «كرمش وشى.. فاكر يامنة وفاكر الوش؟»، لكنها أغلقت بابها فى وجه المترددين على منزلها من عرسان، ورفضت أن يشاركها «غريب» فى تربية بناتها وأبنائهم.
يقطع حديث «شلبى» حضور «عبدالسلام فتح الله» ابن خالته «رضية» وأكبر أحفاد «يامنة» ويستقر إلى جواره بشعره الأبيض، وجلبابه الرمادى، مدير مدرسة على المعاش، ويقول: «أنا أكتر واحد عشت واتربيت فى بيت يامنة، لما كانت فى عزها، كان شلبى وإخواته لسه صغيرين».
يواصل «فتح الله» حكاية «يامنة»، ويقول إنها ظلت تعيش لتربية بنتيها حتى شاهدتهما فى «الكوشة» لعريسين يعملان مهندسين بمناجم الفوسفات: «وقتها أبويا وأبوشلبى خدوا نجية ورضية وجم هنا القصير»، لكن سرعان ما عادت «آمنة» لمهمتها فى «تربية اليتامى» بعدما توفيت «نجية» وعاد ولداها «شلبى وعلى» ليعيشا فى بيت العجوز.
خوفها على أحفادها الصغار بعد وفاة ابنتها الكبرى «نجية» كان يدفعها دوماً للحرص الزائد: «من بعد المغرب تمنعنا من النزول من السرير»، فالصعيد وقتها، حسب فتح الله، كان مملوءاً بالعقارب والثعابين والأفاعى، بجانب حرصها على تعليمهم: «رغم أنها كانت أمية لا تقرأ ولا تكتب»، ويقول «فتح الله» إنها لم تكن تكتفى بالتعليم فى المدارس بل كانت تدفع بهم إلى كُتاب الشيخ صيفاً لحفظ القرآن، دون أن تعبأ بضيق العيش وقلة الرزق وكثرة أحفادها.