«زواج السُّنة» فى الصعيد: العقد «ورقة».. والضمان «شيك على بياض» و«قائمة منقولات».. والضحايا «أطفال بلا أوراق»
«زواج السُّنة» فى الصعيد
لملمت «هبة» ابنة الثمانية عشر عاماً، طرف ثوبها، وضمت طفلتها الوحيدة «ندى»، 6 أشهر، إلى حضنها، وبدأت تحكى بنظرات منكسرة: «طلبت من جوزى نوثق جوازنا عند المأذون، بس رفض».
«هبة».. واحدة من آلاف الفتيات اللاتى وقعن ضحايا لما يطلق عليه «زواج السنة»، وهو نوع من الزواج متداول فى أوساط القبائل والعائلات الفقيرة فى الصعيد، التى تتحايل به على القانون، لأنه يجرم زواج القاصرات، ويكون الضمان الوحيد لعدم تنصل الزوج من العلاقة هو «شيك على بياض» أو «قائمة منقولات» بمبلغ ضخم.
الطفلة «هبة»: «أبى فضل كتابة قائمة منقولات على توقيع عقد زواج.. والمأذون طلب 500 جنيه مصاريف عشان يوثق جوازنا.. وجوزى طيب.. يجيب منين؟»
لا تحمل الفتاة الصغيرة أى وثيقة تثبت زواجها من عامل المعمار، مكرم السيد، فكل ما تملكه لإثبات الزواج هو قائمة منقولات بقيمة 40 ألف جنيه، تخفيها بين طيات ملابسها، تحسباً لـ«غدر الأيام»، بالإضافة لشيك على بياض طلبه والدها الفلاح، حتى يضمن حق ابنته، بدلاً من قسيمة الزواج الرسمية.
«فى البداية أبونا رفض جوازى، لأن عمرى وقتها أقل من 15 سنة، لكن الرجالة الكبار فى العيلة اتدخلوا وأقنعوه، وبالفعل وافق بشرط ياخد ورقة بقايمة منقولات بـ40 ألف جنيه، وكمان شيك على بياض لضمان حقى»، هكذا بدأت حكاية «هبة»، التى تركت الدراسة فى المرحلة الإعدادية لتتزوج، قبل أن تعرف حتى الفرق بين الزواج الرسمى وزواج السنّة، موضحة: «ماعرفش الفرق بينهم، أنا متجوزة وخلاص، ولما جه العريس، قال لى أبويا إنى هاتجوز سُنّة، فقلت له حاضر».
«إكرامى»: «ماشفتش فايدة للقسيمة إلا لما احتجتها عشان آخد مساعدة.. قالوا لى اثبت إنك متجوز»
وحتى الآن، لا تشعر «هبة» بخطورة عدم وجود ما يثبت زواجها من عامل البناء، ولم تهتم حتى أن تسأل عن الإثبات، وتقول بلهجتها الطفولية: «ماعرفش المشكلة، مكرم جوزى راجل طيب، ولما اتجوزنا لبست الفستان الأبيض، اللى أجرناه م البندر، وكنت فرحانة أوى إنى عروسة، ولا أعرف حكاية الورق والقسيمة، اسأل أبويا».
بعد لحظات سرحت فيها الطفلة بنظراتها، ابتلعت ريقها، ثم أكملت حديثها: «لما خلفت بنتى، جات لى واحدة صاحبتى وقالت لى أسجل جوازى عند المأذون، عشان أحفظ حق بنتى، وقبلها عمرى ما فكرت فى موضوع زى دا»، مضيفة: «ولما قلت لجوزى إنى هاتم 18 سنة، وطالبته بتسجيل الجواز عند المأذون، رفض، وبلغنى أن المأذون عايز مصاريف 500 جنيه، وإحنا مش معانا».
صمتت «هبة» لحظات، عندما سألناها عما إذا كانت خائفة من المستقبل، ثم ضمت ابنتها إلى حضنها، وتمتمت بصوت خافت، كأنما تريد أن تطمئن نفسها: «مكرم رجل طيب، وبيجيب لى كل اللى أنا عايزاه، حسب مقدرته، لكن فعلاً الـ500 جنيه مبلغ كبير»، وأضافت بتردد: «لا أخاف، أبويا قال لى إن الجواز دا صحيح، وجوزى مافيش من وراه أذى لأنه راجل طيب فعلاً وماحيلتوش حاجة تكفى مصاريف المأذون». وقبل أن ننهى الحديث مع «هبة»، سألناها عن إمكانية أن تقبل زواج ابنتها بنفس الطريقة، ردت بسرعة: «لا مش ممكن»، ثم تساءلت: «لو فيه جمعية ولا مؤسسة ولا حاجة تتحمل تكاليف توثيق الجواز اللى هما 500 جنيه عشان نحل المشكلة يا ريت، أكيد أنا عايزة الأمان لبنتى واللى زيها عشان نحل المشكلة دى، ماحدش ضامن برضه.. بس نجيب المصاريف دى منين؟».
أمهات يقبلنه للأولاد ويرفضنه للبنات خوفاً من «البهدلة»: «رسمى وإلا بلاش»
وعلى مدار شهر ونصف الشهر تقريباً، فشلت كل محاولات عامل البناء إكرامى، 29 عاماً، لإقناع مسئولى إحدى الجمعيات الخيرية فى قريته التابعة لمدينة أسوان، بأنه يستحق المساعدات الشهرية التى تصرف للفقراء، ففى كل مرة، كان يتلقى نفس الرد من المسئولين: «عاوزين ما يثبت إنك متزوج، قدم لنا القسيمة».
كسا الحزن واليأس وجه «إكرامى»، الذى قال لـ«الوطن»، بعد لحظات صمت قصيرة: «قلت لهم كتير إنى متجوز، وأستحق الشهرية، لكنهم رفضوا، وطالبونى بقسيمة الجواز»، مضيفاً «رحلة توثيق الجواز طويلة، وأنا دلوقتى عاطل عن العمل، وكان أملى كله متعلق بالحصول على مساعدة الجمعية دى، عشان أقدر أصرف على أسرتى لحد ما تتوفر فرصة شغل».
ولم يشعر «إكرامى» يوماً بالحاجة إلى توثيق الزواج، فهو تزوج ابنة عمه «زينب»، منذ 6 سنوات، وأنجب منها طفلين تم تسجيلهما فى السجل المدنى بموجب عقد زواج عرفى، أصر العم على تحريره، وهو يقول: «عمرى ما شفت أى فايدة من توثيق الزواج، فهى بنت عمى، ومعظم سكان قريتنا اتجوزوا بالطريقة دى، لكن دلوقتى احتجت توثيق العقد عشان أقدر آخد مساعدة من الجمعية، واستخراج بطاقة صرف السلع التموينية، خاصة مع موجة غلاء المعيشة».
وفى القرية نفسها، التقطت «الوطن» قصة أخرى من قصص زواج السُّنة، بطلاها محمد خلف وأمل ربيع، اللذان تزوجا منذ سنتين بموجب عقد غير موثق، تحتفظ به والدة الشاب، كوثر محمد، 50 عاماً، داخل حقيبة بلاستيكية، لحمايته من التلف، مؤكدة أنها تنتظر بفارغ الصبر إتمام العروس السن القانونية، حتى توثق العقد.
بصوت منكسر، تقول الأم: «ابنى أرزقى على باب الله، ولما راح لجمعية خيرية عشان ياخد مساعدة يقدر يعيش بيها كل شهر، رفض المسئولون فيها، وطالبوه بأن يقدم لهم قسيمة زواج رسمية»، مشيرة إلى أن الحاجة إلى المساعدات هى السبب الوحيد الذى قد يدفع ابنها إلى توثيق الزواج، فحتى شهادة ميلاد حفيدها استخرجتها بموجب عقد زواج السنة الذى كتبه مأذون القرية، على أن يوثقه بعد وصول الزوجة إلى السن القانونية، وتوضح: «أخذنا وصلاً من المأذون، لنضمن أنه يسلمنا القسيمة لما توصل مرات ابنى للسن القانونى».
دون تردد، أكدت الأم رفضها أن تتزوج ابنتها الوحيدة «زواج سنة»: «لا يمكن، يا زواج رسمى يا إما بلاش»، موضحة: «أخاف يسيبها جوزها بسبب أى خلاف ويرفض بعد كدا تسجيل الجواز، فإحنا بنسمع كتير عن مشاكل من النوع دا، لكن إن كان على ابنى فأنا ضامناه، وفى يوم زفافه، اتعهد لى أنه يلتزم بمراعاة بيته ومراته، وأنه يوثق الجواز لما مراته تتم السن، عشان كدا كتبنا العقد عند المأذون، عشان يعرف ينهى باقى الإجراءات، ونضمن حقوق مراته، رغم أن أسرتها خدت شيك على بياض، لكن القسيمة هى أكبر ضمان لحق الست».
ونفس موقف السيدة كوثر الرافض لتزويج ابنتها «زواج سنة»، أكدته لنا السيدة صويلية نوبى، التى زوجت ابنها صلاح من الطفلة «دينا» دون توثيق، منذ عامين، ووقتها لم يكن عمر العروس يتجاوز الـ14 عاماً، وتقول: «لا يمكن أقبل جواز بنتى بالطريقة دى، إلا لو كنت واثقة فى أسرة العريس، عشان بس ما تحصلش مشاكل لبنتى بعد كدا، أما ابنى فاتجوز من سنتين، ولم تصل زوجته إلى السن القانونى لحد دلوقتى، وهنروح للمأذون لتوثيق الجواز رسمى».
وأشارت إلى أن كتابة مؤخر الصداق فى عقد زواج السنة ليس شرطاً، موضحة: «العادات والاتفاقات بين الرجال هى اللى بتحكم هنا، وبعض الناس بيكتبوا مؤخر للزوجة مش الكل، لكن الباقيين بيكتفوا بالاتفاق العلنى، لكن فى كل جوازات السنة بيكتب الزوج شيك على بياض، يتحط عند أبوالعروسة، وبيسترده لما يوثق الجواز».