بالفيديو والصور| "الوطن" بصحبة "كرسي وعكاز".. حينما يتحول ذوو الإعاقة إلى نجوم على المسرح
"الوطن" بصحبة "كرسي وعكاز".. حينما يتحول ذوو الإعاقة إلى نجوم على المسرح
الهدوء يخيّم على المسرح، وينكشف النقاب عن استعراض مسرحي يؤديه شباب لا تدرك أنهم من "الصم" إلا حينما تلمح تلك الإشارات الضوئية الخافتة تسحب أعينهم لتضبط حركاتهم الدقيقة مع الموسيقى المصاحبة للاستعراض، ليدوم دقائق قليلة، حتى يتنحوا جانبا، فينتقل المشهد إلى عدد كبير من الأشخاص يتجمهرون أمام مكتب للتوظيف مطالبين بحقهم في العمل، ليتفاجؤوا بموظف متعجرف ينهرهم ويعايرهم بإعاقاتهم المختلفة، ويفقدهم الأمل في نيل أي وظيفة يكسبون بها قوت يومهم؛ ليتأكد الحاضرون أنهم بصدد مشاهدة البروفات الأخيرة للعرض المسرحي "كرسي وعكّاز"؛ لتجلس "الوطن" في حضرة ممثلين يعبرون عن "الحلم" عبر المسرح.
فرقة "أحلامنا" المسرحية، كانت مجرد فكرة في ذهن مخرج مسرحي شاب ساقته الأقدار بالمصادفة لتدريب فريق من ذوي الإعاقة الذهنية، لتنتج أولى خيوط حلم "شريف فتحي" في تكوين فريق مسرحي يكون أبطاله من ذوي الإعاقات الخمس، "كانت أول خطوة إني أجمع فريق العمل، كلمت دكتورة نجلاء فوزي باعتبارها خبيرة في شؤون التربية الخاصة، وعرضت الفكرة على أحمد عبدالرازق، المشرف العام على المسرحية، والمؤلف أيمن النمر والملحن إيهاب حمدي، وفوجئت إن الكل تحمس للفكرة وبدأنا التنفيذ".
رحلة بحث المخرج الشاب عن الكوادر بدأت في المدارس، ومراكز الشباب مع رفاقه الأربعة، ينقّبون لانتقاء أفضل المواهب التمثيلية، يجرون اختبارات مطولة لمن يقابلونهم من أطفال وشباب لا تتعدى أعمارهم 28 عاما، لينتهي الأمر باختيار 25 شخصا، من ذوي الإعاقات المختلفة، يكونون قواما رئيسيا للفريق، الذي بدأ في 11 أبريل، "سمعنا من كل حد منهم حكايته ومعاناته، ومن هنا كتب المؤلف سيناريو المسرحية، قسمناها لـ5 أجزاء، كل جزء عبر عن مأساة أصحاب إعاقة معينة".
مخرج العرض: جمعنا 25 شخص من ذوي الإعاقات الخمسة.. والبروفات استغرقت 20 يوم فقط
الخطوة التالية تمثلت في عرض الأمر على رئيس البيت الفني للمسرح فتوح أحمد، الذي دعم الفكرة بتخصيص مسرح لعمل البروفات الخاصة بالعرض، غير أن "الروتين" لم يغب عن المشهد وفقًا لمخرج المسرحية، الذي دفعهم إلى جمع المال من أعضاء الفرقة وأولياء الأمور لشراء الديكور والملابس التي يحتاجونها بدلا من الانتظار لمدة شهرين لعرض المسرحية.
حينما يلتقي الأصم والكفيف، مع المعاق ذهنيا، تلوح في الأفق مشكلة عدم فهم أحدهما للآخر، ليأتي الحل عند الدكتورة نجلاء فوزي، التي تلقت العديد من التدريبات في مجال التنمية البشرية لإحداث التناغم بين هؤلاء المعاقين وبعضهم، "كتير كانوا الشباب المكفوفين بيشتكوا إن الأطفال المعاقين ذهنيا بيضايقوهم ويعيبوا على إعاقتهم، وكنت بتكلم مع الأطفال دول بالراحة وأفهمهم إن دول إخواتهم ولازم يحبوهم ومايضايقوهمش، لحد ما المشاكل دي انتهت تماما، وبقى الحب أكتر سمة ظاهرة في تعامل الفرقة مع بعضها".
بينما يقف على خشبة المسرح، شابان كفيفان يقلبان كفيهما من تعنت الجامعات الحكومية معهم، عانيا الأمريّن من أجل الحصول على تقدير مرتفع في الثانوية العامة للالتحاق بالكلية التي يحلمون بها، فيأتيهما الرد بأن كليات عديدة أغلقت أبوابها في وجوههم؛ ليصير الحلم سرابا في لحظات.
خاض مخرج العرض محاولات عديدة مع الممثلين الكفيفين؛ لإكسابهم سهولة الحركة على المسرح بأريحية تامة دون الخوف من الاصطدام بحاجز أو السقوط من أعلى، فظل لأيام يمسك بإيديهم ويسير معهم على المسرح لحفظ الخطوات.
"مليش أي حقوق في شغلي".. معاناة يحيى حلمي، أحد المكفوفين المشاركين بالمسرحية، يعمل موظفا ضمن نسبة الـ5% المخصصة للمعاقين في إحدى الشركات الحكومية التي ترفض تعيينه، وتصر على إبقائه بعقد سنوي قابل للتجديد، "أنا خريج كلية أصول الدين في الأزهر، وماكنتش حاطط التمثيل في دماغي، لكن حسيت إن ده الحاجة الوحيدة اللي هتخرج اللي جوايا، وهعبر بيها عن معاناتي أنا وكل اللي في ظروفي".
ولم تتوقف مساهتمته عند التمثيل فقط، بل كان هو مؤسس صفحة "كرسي وعكّاز - فرقة أحلامنا المسرحية" على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، للترويج لذلك العمل المسرحي، واستدعاء الجمهور للنظر إلى مشكلات المعاقين بعين الاعتبار.
"سيد" من المعاقيين حركيا: نفسي ألعب كرة في الأهلي.. و"عمرو" بطل العالم في الفروسية من المعاقيين ذهنيا: بحس أني طاير على الحصان وفي المسرح
على خلاف الجميع، تقف بثبات وثقة شديدين على الخشبة، لتصطدم آذانها بـ"هو إنتي قصيرة كده من زمان؟، تعرفي إن اللي زيك كنا بنلعب بيهم زمان؟"، إلا أنها تأبى أن تنصاع لهم، وتعلن "شيرين محمد"، أنها لسان حال الأقزام داخل العرض، وهو الحلم الذي لجأت له بعد مشاهدتها مسرحية "كوكب سيكا" للأقزام، الذي ولدّ داخلها رغبة قوية للتعبير عن ذاتها والتعبير عن ما تواجهه بالمجتمع، فخضعت لتدريبات التمثيل والإلقاء، إلى أن كسبت ثقة فريق عمل المسرحية.
أحلام الفتاة العشرينية لا تتجاوز إيجاد عمل يشعرها بوجودها في الحياة، ويجنّبها شفقة المجتمع، فضلا عن الحصول على سكن صغير مستقل تعيش فيه بمفردها، "نفسي الناس تعتبرنا بني آدمين زيهم مش كائنات جاية من عالم تاني، ونفسي المسرحية تكسّر الدنيا عشان صوتنا يتسمع".
لم تتوقف خشبة المسرح عن البوح بما في جعبتها، ليعلوها طفلان ممسكان بأقلام وألوان متناثرة، يعبران عن حلمهما الصغير في أن يصبحا رسّامين ينقلان بريشتهما أوجاع أمثالهما وحكاياتهما التي لا تنتهي، رغم إعاقتهم الحركية بعدم إكتمال نمو إيديهم، بينما يحاول 3 آخرين إخفاء الهزة الخفيفة في أقدامهم أثناء حركتهم على المسرح فيما تحلق أحلامهم بعيدا.
الصعوبات التي واجهت المخرج شريف فتحي لإتمام ذلك المشهد هو إعانة المعاقين حركيا على التجول بسرعة، لذلك خصص لهم 10 أيام، لإجراء تمرينات جري وأخرى تساعدهم على الحركة، إلى أن تحسنت استجابتهم الحركية بشكل كبير على المسرح.
"مثلي الأعلى مؤمن زكريا وعبدالله السعيد".. كلمات لفتت الانتباه إلى حلم الطفل "سيد"، المعاق حركيا الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، ويتمنى تكوين فريق كرة القدم من ذوي الإعاقة، "أنا مش بس بحب الكورة والتمثيل، أنا بحلم أكمل دراستي في الجامعة وأطلع محاسب".
التمثيل على المسرح والوقوف بثقة لأداء دوره على أكمل وجه رغم إعاقته الذهنية، لم يكن الإنجاز الوحيد في حياة البطل العالمي عمرو، الذي حصل على آخر بطولة للفروسية للأولمبياد الخاص، "المدرسة بتاعتي مش بتعلمني أي حاجة، وقررت أني محبش حاجة أكتر من الحصان، بحس إني طاير وأنا راكب عليه، وجيت هنا عشان بحب التمثيل أوي".
9 استعراضات وضعها المخرج الثلاثيني كفواصل بين كل رسالة داخل العرض، يقوم بتأديتها 8 من ذوي الإعاقة السمعية، الذين تلقوا تدريبات مكثفة على يد "سيد فاروق"، أحد مصممي الاستعراضات، من خلال الاتفاق على إشارات ضوئية معينة تتغير أمامهم على المسرح يتحركون بتغيرها، "تواصلت معاهم بفضل مترجم الإشارة محمد غنيم اللي كان بينقل كلامي ليهم وبيعرفني ملاحظاتهم، وبقى فيه حب كبير بيني وبينهم"، لتشاركهم مترجمة الإشارة، على الطرف الأيمن من المسرح باستمرار، وتترجم للجمهور العرض المقرر بدأه الخميس المقبل.
نجلاء فوزي: المعاقين ذهنيا ضايقوا المكفوفين.. ودلوقتي كل واحد بيراعي شعور التاني
أداء الاستعراضات لم يكتف به الطفل الأصم "محمد" الذي قرر أن يشارك كممثل ينوب عن أمثاله داخل العرض، ويظهر في مشهد مقتضب ويصرخ في مسؤول التوظيف بمكتب العمل لإعانته على إيجاد وظيفة مناسبة، فلا يلق منه إلا سخرية ونهرا، "حاسس إني بوصل رسالة لكل الناس إن الصم يقدروا يشتغلوا زي أي حد، وإننا فاقدين السمع مش العقل".
"هل سيتحقق حلمهم؟ هل سينالوا حقوقهم؟ هل ستخفف همومهم؟ هل ستتحسن أحوالهم؟ هذا ما قصدته".. تلك كانت الرسالة الأخيرة التي وجهها شريف فتحي، مخرج "كرسي وعكّاز"، لاستدعاء الجمهور لحضور العرض، ولتوصيل رسالة هؤلاء الذين تجاوزوا 10 ملايين مواطن، ولا يزال البحث جاريا عن حقوقهم.