"رؤية الهلال في مصر" من مذكرات الرحالة "ابن بطوطة"
صورة أرشيفية
انتقل ابن بطوطة من الإسكندرية قاصدا القاهرة، وهذا التنقل استلزم المرور بعدة مدن وقُرى، منها: قرية (تَرَوَجة)، ومنها إلى مدينة (دمنهور)، ثم (فَوَّا) ثم (النَحرارية)، ومنها إلى مدينة (أَبْيار)، وهذه المدينة كما وصفها ابن بطوطة " قديمة البناء، أرجة الأرجاء كثيرة المساجد، ذات حسن زائد، وهي بمقربة من النحرارية. ويفصل بينهما النيل".
كما تحدث ابن بطوطة عن أهم صناعة في هذه المدينة، وهي صناعة الملابس، وهي ملابس قيمة جداً وتكتسب شهرة فائقة عند بيعها في الشام والعراق، ورغم قيمتها هذه فهي – أي الملابس – لا تلق اعتباراً أو قيمة عند أهل مدينة أبيار نفسها.
ومن الثابت تبعاً لما جاء في رحلات ابن بطوطة أن أغلب حكام البلاد وأمرائها وأعيانها، كانوا يستقبلونه أحسن استقبال، ويكرمونه أفضل تكريم، وأغلبهم كانوا يستضيفونه في منازلهم. ومن هذا المنطلق زار ابن بطوطة قاضي مدينة أبيار (عز الدين المليجي الشافعي)، وتصادف أن الزيارة كانت يوم التاسع والعشرين من شهر شعبان، أي (يوم الركبة) كما أسماه الرحالة، أو (يوم ارتقاب هلال رمضان) كما يسمونه أهالي أبيار، ومن عادة الأهالي في هذه المدينة - في مثل هذا اليوم من كل عام، كما قال ابن بطوطة: اجتماع "فقهاء المدينة ووجوهها بعد العصر من اليوم التاسع والعشرين لشعبان بدار القاضي، ويقف على الباب نقيب المتعممين، وهو ذو شارة وهيئة حسنة. فإذا أتى أحد الفقهاء أو الوجوه، تلقاه ذلك النقيب، ومشى بين يديه قائلاً: بسم الله، سيدنا فلان الدين، فيسمع القاضي ومن معه فيقومون له ويجلسه النقيب في موضع يليق به. فإذا تكاملوا هنالك، ركب القاضي وركب من معه أجمعين، وتبعهم جميع من بالمدينة من الرجال والنساء والصبيان وينتهون إلى موضع مرتفع خارج المدينة، وهو مرتقب الهلال عندهم، وقد فرش ذلك الموضع بالبسط والفرش، فينزل فيه القاضي ومن معه فيرتقبون الهلال، ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب وبين أيديهم الشمع والمشاعل والفوانيس، ويوقد أهل الحوانيت بحوانيتهم الشمع، ويصل الناس مع القاضي إلى داره، ثم ينصرفون، هكذا فعلهم في كل سنة".
والوصف الذي جاء به ابن بطوطة لاستطلاع هلال رمضان في مدينة أبيار، أن المدينة بأكملها يسير أهلها ليلاً بشموع مضاءة وبفوانيس متلألأة، وأن جميع حوانيتها مضاءة بالشموع، ليوحي بمنظر خلاب يستحق التدوين في رحلات ابن بطوطة.
وتبعاً لخطة سير ابن بطوطة في رحلته، فقد توجه من مدينة أبيار إلى مدينة المحلة الكبيرة، ثم البرلس، ثم دمياط، وفارسكور، وأشمون الرمان، وسمنود حتى وصل إلى القاهرة.
ومن القاهرة واصل رحلته إلى صعيد مصر من خلال مدنها وقُراها، ومنها: منية القائد، وبوش، ودلاص، وبِبا، والبهنسا، ومنية ابن خصيب (محافظة المنيا حالياً)، ومَنْلَوِي (ملوي)، ومنفلوط، وأسيوط، وأخميم، وقنا حتى وصل إلى مدينة قوص.
ويصف ابن بطوطة مدينة (قوص) بأنها " مدينة عظيمة لها خيرات عميمة، بساتينها مورقة، وأسواقها مونقة، ولها المساجد الكثيرة، والمدارسة الأثيرة، وهي منزل ولاة الصعيد".
كما تطرق إلى ما بها من زوايا وأضرحة للمشايخ والصوفية، مثل زاوية الشيخ شهاب الدين بن عبد الغفار، وزاوية الأفرم. وزار هذه المدينة في شهر رمضان؛ وذلك على الرغم من عدم ذكره لتاريخ الزيارة بصورة محددة، والسبب في ذلك أنه قال عن هذه المدينة: "وبها اجتماع الفقراء المتجردين في شهر رمضان من كل سنة".
وهذه العبارة تدل على أنه شاهد بنفسه جموع الفقراء في هذه المدينة في شهر رمضان، أو أنه – على أقل تقدير – سمع بذلك، وهذا السمع يدل بجلاء أن هذه المدينة مشهورة باجتماع الفقراء المحتاجين في هذا الشهر الكريم.
والرحالة يقصد أن هذه المدينة هي ملجأ الفقراء المحتاجين في شهر رمضان، وذلك لثراء أهلها، وتسابقهم على فعل الخير، لا سيما التصدق على الفقراء والمساكين، وإطعامهم في هذا الشهر الكريم. وهذا الأمر أكده ياقوت الحموي في كتابه (معجم البلدان)، عندما تحدث عن هذه المدينة، فوصفها بأنها "مدينة كبيرة عظيمة واسعة ... وأهلها أرباب ثروة واسعة".