«بورسعيد» تحتفل بالحظر.. طبول وبالونات ودفوف وضحكات فى «مدينة ساهرة»
قبل أن تدق الساعة التاسعة مساءً، إيذانا ببداية حظر التجول على مدينة بورسعيد، أسرع الشاب الثلاثينى (محمد على حسن) لارتداء ملابس شتوية ثقيلة، وطبع قبلة على جبين زوجته وطفلته الصغيرة (هنا)، بنت الثلاث سنوات، وتركهما فى رعاية نجله الذى لم يتعد عمره 5 سنوات، لينضم إلى بنى شعبه البورسعيدى فى مسيرة ضمت آلاف الشباب، مطالبين بإسقاط نظام محمد مرسى، ورفض حالة الطوارئ، وحظر التجول.
خرج «محمد» بعد «وقف حاله» وإغلاق محله التجارى لبيع الأجهزة الإلكترونية، لينضم إلى آلاف الشباب والعائلات فى مسيرة رفض حظر التجول، هاتفاً بإسقاط النظام وإعلان بورسعيد دولة مستقلة والقصاص للشهداء. لا يرى أمامه سوى مشهد الجنازة الضخمة التى سبقت المسيرة بيوم واحد لدفن الشهداء الأربعين والنعوش التى سقطت منهم بعدما هاجمتها الداخلية بسيل من الرصاص والغاز المسيل للدموع.
الحظر فى بورسعيد كان مختلفاً، فالكل حاول تطبيق مبدأ الحظر بطريقته الخاصة فإذا كان الحظر معناه حظر الأهالى من النزول إلى الشوارع، فإن الحظر جرى تطبيقه على المنازل التى تركها ساكنوها ونزلوا جميعاً إلى الشوارع، يعلنون رفضهم لقرارات الرئيس، حتى لو كان من رأس الدولة، احتفلوا فى الشوارع، جابوا بمسيرات قاطعين كل مدينة بورسعيد.[Quote_1]
ألتراس المصرى أو «جرين إيجلز» كان فى مقدمة المسيرات بهتافات مدوية وصافرات اهتزت لها أرجاء بورسعيد، يقرعون الطبول ويهتفون بوجه مصمم على إسقاط النظام ومطالبته بالرحيل، وتتعالى الصيحات مابين «ارحل» و«الشعب يريد إسقاط النظام» وينظرون فى ساعاتهم ويتذكرون قرار الحظر فيرددون «الساعة بقت عشرة»، تتبعها حركتهم الشهيرة بتحريك أيديهم إلى أعلى وأسفل مصحوبة بكلمة «أوووووه» ويختمونها قائلين: «بورسعيد بتقولك الحظر دا عند (.. .)»
واستمرت الهتافات ومعها المطالبة بالقصاص للدماء «يا نجيب حقهم يا تموتوا زيهم»، وتقترب المسيرة التى بدأت من ميدان مريم من مستشفى بورسعيد العسكرى الذى وقفت أمامه مدرعتان تابعتان للجيش يهتف الأهالى «سلمية سلمية» فيرد عليها الضابط بالتحية والسلام فيردون عليه «الجيش والشعب إيد واحدة»، وتتواصل المسيرة يتقدمها مجموعة من كبار السن حاملين لافتة كتب عليها «بورسعيد دفعت ضريبة الدم وأنقذت مصر والعروبة كلها، جريدة الشعب عام 1956»، و«مرسى مرسى يا بشار.. قتّل قتّل فى الثوار»، كبار السن لم يكتفوا فقط بحمل اللافتات، إنما من لم يقدر منهم على السير، قرروا مشاركة أهالى بورسعيد من خلال الوقوف فى شرفات منازلهم، وهو ما حدث عندما وصلت المسيرة لشارع الجمهورية. ظهر رجل وسيدة عجوزان من شرفة بناية شاهقة، بدت على وجهيهما علامات السعادة، لم يستطيعا النزول، لكنهما أضاءا النوافذ، ووقفا فى البلكونة يلوحان للسائرين بأيديهما، مشيرين إليهم بعلامة النصر، ويلقيان عليهم «بلالين» ملونة ويشاركانهم فى الهتاف.
بعد تقدم المسيرة قليلاً، توقف العشرات، متحلقين فى دائرة تتوسطهم سيارة، هبط منها 3 يمسكون الطبل والدفوف، أخذوا يدقون على طبولهم، ويترنحون راقصين، يلوون أعناقهم، ويتمايلون بأجسادهم فى سعادة، وجوه تضحك فى عناد، وأغان تنطلق من أفواهم فى تحد، لا يعنيهم شىء، ولا يهمهم إلا الفرح.
هتافات «الجرين إيجلز» تعود من جديد ينظرون إلى الساعة التى دقت الحادية عشرة مساءً «الساعة بقت 11» ثم يهللون ويتغنون بأغنية الألتراس الأهلاوى «خافى منا يا حكومة جايين الليلة ناويين جمهور (المصرى) ولعوها.. ». ثم يصرخون بقوة «عايزنها دولة».
يتذكر الشاب الثلاثينى مشهد الاشتباكات الدموية بين المتظاهرين وقوات الأمن، تسبقه انفعالات وجهه وصوت باكٍ، ويطلق تساؤلات لم يحظ بإجابة عنها، قائلاً: «إزاى وأنت بتدفن صاحبك المتوفى يحدف عليك قنابل غاز ونار، إزاى مش قادر تحترم حرمة الموتى لدرجة إن فيه قنبلة غاز وقعت فى نعش متوفى ورصاصة اخترقت جسد واحد تانى، أنت كظابط شرطة المفروض تقف جنبى وتحمينى على الأقل لحد ما أدفن صاحبى».[Quote_2]
ينفصل الشاب عن مسيرته ويقرر مرافقتنا فى جولة بشارع الثلاثينى والشوارع الموازية له، حيث وقفت مدرعات الداخلية بين ثنايا الشوارع الموازية لشارع الثلاثينى، وكان بإمكاننا التعرف على مكانها من صوت الطلقات المتكررة، التى تطلقها الداخلية بشكل عشوائى. بعدها بلحظات تسمع صوتا مثيلا، فسره الشاب بوجود مجموعة من الأهالى المحتمية فى العمارات المواجهة للداخلية، للرد على ثأر الأربعين شهيداً وحماية المارة من قنص ربما يودى بحياة العشرات.
لم ينته الشاب من كلماته حتى وجدنا بقعة كبيرة من الدماء على أحد جانبى الشارع المواجه للمدرعات، توجهنا إليها، وسألنا الشباب الملتفين حولها عن سببها، فقال أحدهم إنها لشاب أُصيب برصاصة فى رأسه ونُقل إلى المستشفى دون معرفة: هل ما زال حياً أم انضم إلى قائمة الأربعين شهيدا؟ نظرنا حولنا فإذا بالأعمدة الرخامية التى حملت المحال التجارية والمواجهة لمدرعات الداخلية، والتى احتضنت بقعة الدماء الكبيرة زينت بطلقات الرصاص، فهذه طلقة اصطدمت بالعمود الرخامى، وثانية اخترقت الباب الحديدى للكشك الذى أغلقه صاحبه، وغادر، وثالثة أسقطت اللوح الزجاجى لواجهة المحل المجاور للكشك.
أحد المواطنين نبهنا لضرورة اتخاذ الحذر، خاصة عند المرور أمام الشارع المواجه لشارع المدرعات القابعة، أمام قسم شرطة العرب، وهو ما علق عليه محمد: «الشرطة لازم تسيب المكان مش عايزين حكومة فى بورسعيد، لأن حكومتنا ظالمة، كل يوم 5 أو 6 أنفار بيموتوا مننا، الجيش ينزل يمسكنا بدل الحكومة، الجيش عمره مازعلنا».
سؤال واحد، ظل «محمد» يردده دون أن يجد له مجيبا: «ضحوا بينا ليه؟ ضحى بشعب بورسعيد كله ليه؟ مش هو دا القضاء اللى قال عليه مرسى أيام مبارك إنه ظالم؟ بيدوقنا الظلم اللى هو شافه ولا إيه؟ ويضيف: ما عندناش إلا حكومة ظالمة، سابوا ليه المحافظ ومدير الأمن اللى قفلوا الاستاد واتفقوا مع البلطجية، فين الضباط اللى كانت موجودة فى بورسعيد لتأمين الاستاد؟ إحنا مش موافقين على الحظر وقانون طوارئ ليه فى بورسعيد؟ ما التحرير والإسكندرية فيهم اشتباكات ليه؟ قانون الحظر نزل لبورسعيد ودول القناة حتى مفيش عدل فى حظر التجول «وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل»، اخترنا مسلم على الأقل يورينا العدل اللى محدش شافه فى 30 سنة، يقوم يعمل فينا كدا؟
يصمت «محمد» وكأنه يفكر فى شىء وقبل أن يتركنا ويستكمل مسيرته، يطلب منا الذهاب بالكاميرا إلى أماكن الاشتباكات، لتوثيق ما يحدث، ثم الذهاب للمستشفيات لرؤية من جرى استهدافهم، مردداً: «اللى بيضرب مفيش واحد من الشعب بيضرب نفسه، لو إحنا بلطجية، ومعانا سلاح نارى كان زمانا بنرد عليهم بضرب النار، واستولينا على السجن وأقسام الشرطة ومبنى المحافظة ومسيرتنا النهاردة أكبر رسالة لمرسى بأننا مش هنسيب دم الشهداء اللى سقطوا».
أخبار متعلقة:
مدن القناة تهزم «مرسى» بالعصيان المدنى
السويس «تدهس» الحظر بـ«الموتوسيكلات».. وآلاف المتظاهرين يهتفون: «يا عساكر مصر.. مش هنطبق حظر»
«الإسماعيلية».. مسيرات حتى الصباح.. و«مبارة ودية» بين الألتراس والبلاك بلوك