«البشرى»: موقف جماعة الإخوان من المسألة الوطنية كان موضع شك
المستشار طارق البشرى
يقول المستشار طارق البشرى فى كتابه: «الحركة السياسية فى مصر»:
استطاع المرشد أن ينمى أسلوباً فى العمل سمته «كريستينا هاريس» ذا فاعلية واقتدار، فأكد على الطابع الدينى للدعوة إذا وجد فى الحكومة رئيساً قوياً، وانغمر فى الصراعات السياسية إذا وجد رئيساً ضعيفاً، وهكذا استطاع أن يراوغ الحكومات والأحزاب والرأى العام بوجهَى الدعوة. وقد صرح البنا بهذا الهدف فى رسالته «نحو النور» التى أرسل بها إلى رجال الحكومات العربية والإسلامية وهيئاتها التشريعية عام 1936م.
والحقيقة أن الجماعة، برغم ما كان يصدر عن قادتها من تعريض بالاستعمار أحياناً أو هجوم عليه، كانت أقل التنظيمات السياسية المصرية تعرضاً للمسألة الوطنية، وتحديداً للموقف إزاءها، وكان هذا مثيراً للشكوك، وملقياً فيضاً من الغموض فى أوقات كانت المسألة الوطنية خلالها هى بؤرة الاهتمام العام. وقد تضمنت رسالة «نحو النور» ما سُمى بالموبقات العشر، ورد الاستعمار على رأسها، ثم تضمنت خمسين مطلباً من المطالب العملية للدعوة، تحت عنوان «بعض خطوات الإصلاح العملى»، لم يرد بها مطلب واحد يتعلق بالجلاء أو الاستقلال، إنما اكتفت بعبارة: «تقوية الروابط بين الأقطار الإسلامية جميعاً، وبخاصة العربية منها للتفكير الجدى العملى فى شأن الخلافة الضائعة».
كما تكلم الشيخ فى رسالته «إلى أى شىء ندعو الناس؟» عن الوطن الإسلامى بأنه ما يسمو عن حدود الوطنية الجغرافية والوطنية الدموية إلى وطنية المبادئ. وعلى أى حال فإن الدكتور إسحق موسى الحسينى يذكر أن تحرير وادى النيل كله من النفوذ الأجنبى كان مطلباً يلى فى الأهمية لدى الإخوان مطلب إقامة الحكومة الإسلامية.
وعن حسن البنا ومذكراته «الدعوة والداعية» كتب يقول:
وقد سلك هو (المرشد حسن البنا) إلى ذلك السبيل التقليدى لإقصاء معارضيه كلما تجمّع فى مواجهته اتجاه معارض، وإقصاء أى فرد ينمو نفوذه أو تستطيل قامته حتى تشارف هامة المرشد أو ينذر بأن يكون قطباً ثانياً جاذباً لأى اتجاه معارض، حدث ذلك فى بداية الدعوة عندما أبعد المرشد من اختلفوا معه على تعيين النائب عنه عند انتقاله من الإسماعيلية، ثم حدث مع من عارضوه عندما اتجه بالجماعة صراحة إلى السياسة سنة 1939م، كما حدث بالنسبة لأحمد السكرى الذى كان من رجال الجماعة الأوائل.
ويظهر من مطالعة مذكرات الدعوة والداعية أن طريقة المرشد فى هذه الصراعات تتحصل فى تفتيت القوى المعارضة وتوريط المعارضين فى الأخطاء وإظهار نفسه بمظهر البرىء المخدوع المعتدى عليه، والعفوّ المتسامح مع المعتدين عليه. ويبدو أنه كان يستميل العواطف بهذا المنظر، فقد كان حريصاً فى مذكراته على أن يرسم هذه الصورة لنفسه عند حديثه عن أى واقعة خلاف حدثت معه، وعندما لا تكون ثمة معارضة، وتُلتقط بذورها تباعاً، وعندما لا يكون ثمة أنداد وترتفع الهامة على سائر القرناء ويصير الباقون أتباعاً، وعندما تتجسد الدعوة فى شخص يصير رمزاً لها ويمارس أعماله من خلال الآخرين فترتد إليه فضائلهم، ولا يبدو منه إلا الوجه الناصع والساعد القادر، ويتحمل الآخرون ما يثير النقد ويكشف الوهن، عندئذ يبدو الزعيم لا ككل الناس جمعاً للفضائل وبراءة من العيوب، وامتلاء بالحكمة والكفاية والاقتدار. وعندما يمسك وحده بأطراف التنظيم فلا يصل خيط بين فردين ولا بين جهازين إلا عن طريقه، يصبح وحده الملم بالعمل، العليم بأسراره الموجودة بذاته فيه دائماً، ويبدو قرين المعرفة يفوق البشر ويظهر إدراكه قرين الإلهام. ولم يكن المرشد العام ممن يدعى لنفسه أمراً من هذا يسهّل التشكيك فيه ويثير النفور، إنما يتم عرضاً بالإيماء البعيد.
ويظهر فى أحاديث المرشد تأكيده البالغ على الدور الشخصى الذى يقوم به ونظرته إلى نفسه على أنه محور الدعوة جماعة وأعضاء، وهو لا يطمئن لأمر إلا أن يبنيه بنفسه أو يشارك الإخوان فيه، كتب يقول إن فرعَى جمعية الإخوان بالمحمودية وشبراخيت سوف لا ينفعان كثيراً لأنهما أُنشئاً بغير أسلوبى، ولا ينفع فى بناء الدعوة إلا ما بنيت بنفسى وبجهود الإخوان الحقيقيين الذين يرون لى معهم شركة فى التهذيب والتعليم، وهم قليل.
كانت الدعوة والجماعة تمتص كل نشاط الفرد الحيوى، ويرتبط بها لا فهماً وإيماناً فحسب وليس فى نشاطه العام فقط، ولكن فى جميع نثريات الحياة، بحيث يصبح كما لو كان يستمد وجوده المادى منها، ويخلق فيه ذلك الطواعية والسلاسة لجماعته، ويصبح هو والآخرون من إخوانه مجتمعاً مغلقاً يحيا أفراده حياتهم اليومية وفق تعليمات وضعتها قيادتهم لا يشاركهم فى الالتزام بها أحد من خارجهم، وبهذا يذوب الأفراد فى الجماعة وفى زعيمها المجسّد لها المبايَع على السمع والطاعة، بواسطة أمور لا تتعلق بهدف سياسى معين، ولا بمنطق عقلى واضح ولا بنشاط معلن محدد، ولكن يذوبون بالانسياق من الداخل باعتبار ما يتهدد الكيان الذاتى للفرد الذى تبنى الجماعة جزئياته، وما يتهدده من انهيار وتهدم لو لفظته الجماعة من صفوفها، ويتم هذا البناء للفرد مع إشاعة عبق سلفى يحيط بالجماعة ومنشآتها وأفرادها.
جزء من كتاب موقف الأزهر وعلمائه من جماعة الإخوان للباحث حسين القاضى