التغلغل الإسرائيلى فى القارة السمراء.. تاريخ من «حرب المصالح»
جانب من الأعمال المستمرة فى بناء «سد النهضة» «صورة أرشيفية»
لم تكن زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو»، لـ4 من دول حوض نهر النيل، مفاجأة غير متوقعة، بقدر ما حملت تأكيدات على عمق العلاقات الإسرائيلية - الأفريقية، وتحديداً مع دول حوض النيل، تلك العلاقات التى لا يمكن اعتبارها وليدة اليوم، بل إن جذورها تمتد إلى بدايات قيام الدولة العبرية، وحروب العصابات، وتوطدت خلال فترتى الخمسينات والستينات نتيجة الحصار العربى الذى كان مفروضاً آنذاك على تل أبيب. حقائق التشابك الإسرائيلى - الأفريقى وجذوره تم رصدها فى أكثر من كتاب، غير أن هناك كتابين مهمين يرصدان «التغلغل الإسرائيلى فى القارة السمراء»، الأول يحمل عنوان «الصراع القبلى والسياسى فى دول حوض النيل»، والثانى عبارة عن دراسة عميقة حملت عنوان «اليهود فى جنوب أفريقيا».
«الوطن» ترصد أهم التفاصيل بالعرض لكتابى «الصراع فى دول حوض النيل» و«اليهود فى جنوب أفريقيا»
زيارة «نتنياهو» اكتسبت أهمية كبيرة بالنسبة لمصر، لتوقيتها الحساس للغاية، إذ تتفاقم المخاوف من تبعات بناء سد النهضة فى إثيوبيا، فضلاً عن تزامنها مع توجهات مصرية لتعميق التعاون التجارى والاقتصادى بشكل عام مع أغلب الدول الأفريقية، باعتبارها أسواق لم تُستغل بعد من قبَل المصدّرين المصريين، وهو التوجه الذى تمت ترجمته سريعاً من خلال إنشاء شركة مصرية - لبنانية لاختراق الأسواق الأفريقية. وربما كان طبيعياً أن يترجم البعض تلك الزيارة على أنها «استباق إسرائيلى» للحيلولة دون إتاحة منفذ مهم للبضائع المصرية.
ما يعزز وجهة النظر تلك أن التحركات المصرية فى أفريقيا بدأت تأخذ مساراً مهماً مع الإعلان أمس من قبَل وزارة التجارة والصناعة عن الانتهاء من المرحلة الأولى لمفاوضات إبرام منطقة التجارة الحرة بين دول التكتلات الأفريقية الثلاث «الكوميسا» و«الساداك» وجماعة شرق أفريقيا، وهو الاتفاق الذى سيتيح لمصر النفاذ إلى أغلب أسواق القارة الأفريقية، وسيُحرر نحو 60% من التجارة فى أفريقيا، وذلك بعد أن كانت مصر عضواً فقط فى اتفاقية «الكوميسا» دون غيرها.
المعطيات الحالية تؤكد أن العلاقات الإسرائيلية - الأفريقية قد تشهد تطوراً أكبر خلال المرحلة المقبلة، لكن التاريخ وحقائقه يؤكدان أن تلك العلاقات ما كانت لتشهد هذا القدر من التطور لولا وجود أسس وجذور تم تثبيتها منذ عقود، وأن ما يحدث الآن ليس أكثر من استكمال لتثبيت الأقدام الإسرائيلية فى الساحة الأفريقية.
عمليتا «موسى وسليمان» بداية لتهجير آلاف اليهود الأفارقة إلى إسرائيل.. و«الموساد» كان يدفع رشاوى لـ«النميرى».. و«الخرافة» تتدخل فى العلاقة مع إثيوبيا
«إن على إسرائيل فى مواجهتها للدول العربية داخل حدودها وعلى المسرح الدولى، أن تبذل جهوداً فائقة لاكتشاف مسالك جديدة تمكنها من اختراق الحصار المفروض عليها، فإن لها حليفاً مخلصاً وأخوياً فى يهود العالم، ومن الطبيعى أن تكون المهام الأساسية للبعثات الإسرائيلية فى أفريقيا، العمل على تنمية الروابط بين إسرائيل واليهود هناك».. بهذه الكلمات لخّصت «جولدا مائير»، رابع رئيس وزراء لإسرائيل، الفلسفة والاستراتيجية التى تتحرّك بناءً عليها الدولة العبرية داخل القارة الأفريقية.
وربما لم يكن الدور الإسرائيلى فى القارة السمراء لسنوات مضت جلياً بشكل لافت للنظر، رغم خطورته، لكن هذا الدور يتضح بشدة فى أوقات الأزمات، وربما كانت الأزمة التى نشبت قبل أكثر من أربعة أعوام بين مجموعة «دول المنبع» فى دول حوض النيل بزعامة إثيوبيا و«دول المصب» بزعامة مصر، بسبب إصرار الطرف الأول على توقيع اتفاق «عنتيبى» الذى يقضى بإعادة تقسيم مياه النيل، ربما كانت دليلاً على ذلك، فشبح إسرائيل كان حاضراً بقوة كلاعب أساسى فى تلك الأزمة من وراء الستار.
«قصة التغلغل الإسرائيلى»، التى تهدف فى الأساس إلى ضرب العمق المصرى المتمثل فى منابع النيل، وتحديداً فى إثيوبيا، ربما تكون معروفة لكثيرين، لكن كيفية حدوث هذا التغلغل وأسراره قد تكون خافية على معظمنا، وفى كتابه «الصراع القبلى والسياسى فى دول حوض النيل» كشف الدكتور عبدالعزيز راغب شاهين، أستاذ الأنثروبولوجيا بمعهد البحوث والدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة، عن الأهمية التى تمثلها الدول الأفريقية لإسرائيل، خصوصاً دول حوض النيل والقرن الأفريقى التى تُعد فى الوقت ذاته ضمن دائرة الاهتمامات الأولى لمصر فى القارة الأفريقية.
أول طيار إسرائيلى قُتل فى حرب 1948 كان من جنوب أفريقيا.. و«جولدا مائير» استغلت أفريقيا لاختراق الحصار العربى
وشرح الكاتب التغلغل الإسرائيلى فى إثيوبيا وعلاقته بالأمن القومى المصرى، قائلاً إن دوائر الأمن المصرية تصطدم بالمناطق ذات الأهمية القصوى للتغلغل الإسرائيلى فى مناطق البحيرات العظمى ومنطقة القرن الأفريقى وبالذات فى إثيوبيا، ويشير إلى أن التغلغل الإسرائيلى فى أفريقيا، وإن كان قد بدأ من جانب إسرائيل بهدف «بناء شرعية وجودها» فإنه يزيد من الاعتراف بها على مستوى العالم الثالث، والخروج من الهامشية التى كانت تُهدد وجودها فى هذا العالم منذ أن حاصرتها الحركة العربية وعزلتها فى مؤتمر «باندونج».
ويؤكد أن الاعتبار الأمنى كان أهم الاعتبارات التى تصدر السياسة النشطة لإسرائيل فى أفريقيا، خصوصاً مع أواخر الستينات، وهو ما جاء عن طريق الالتفاف حول دول حوض النيل بأنشطة سياسية وعسكرية وثقافية واجتماعية مكثفة، وكان دافعها الأساسى فى ذلك أن تلك الدول تمثل العمق الاستراتيجى لمصر، إضافة إلى أن تلك الدائرة تمثل نقطة التقاء نحو 10 دول أفريقية ذات وزن سياسى.
يضيف الكاتب: استهدفت إسرائيل من وراء مخططها فى أفريقيا كسب صداقة هذه الدول، بما يتيح لها تجاوز الطوق العربى الذى فرض عليها خلال فترة الستينات، وتطويق الدول العربية المعادية، بدول صديقة لإسرائيل.
ويؤكد الكتاب أن إسرائيل قامت بالتغلب على ضعفها الديموجرافى من خلال اللجوء إلى الهجرة اليهودية من الخارج، موضحاً أن إسرائيل ضغطت على النظامين الإثيوبى والسودانى بطرق شتى، منها استخدام ورقة المساعدات الاقتصادية والعسكرية مع النظام الأول، كما استخدمت ورقة تحسين العلاقات مع واشنطن مقابل ترحيل يهود «الفلاشا» إليها، وهو ما تم فى «عملية موسى» التى نجحت فى تهجير 14 ألف يهودى فى الفترة من 1948 إلى 1985، ثم تبعتها «عملية سليمان» التى أسفرت عن هجرة 18 ألف يهودى إثيوبى خلال فترة التسعينات، وفى المقابل حصلت حكومة «منجستو» الإثيوبية وقتها على مساعدات تمثلت فى إرسال خبراء فى مجال الصحة والاقتصاد، فضلاً عن وصول بعض المساعدات الأمريكية والقروض الدولية التى لم يكن لإثيوبيا نصيب فيها من قبل، فى حين كان نصيب الرئيس السودانى آنذاك جعفر النميرى 56 مليون دولار، تم إيداعها فى حساب سرى بفرع لبنك أوروبى بروما، كما كان لمساعدى «النميرى» نصيباً من تلك الصفقة، بخاصة المشاركون فى التنفيذ.
هجرة اليهود الإثيوبيين كانت حافزاً لتوطيد التعاون بين إسرائيل وإثيوبيا، وهو ما يحقق مطامع وأهدافاً استراتيجية إسرائيلية تؤثر على الأمن القومى العربى بصفة عامة والأمن القومى المصرى بصفة خاصة.
الأمر لا يقتصر على إثيوبيا فحسب، ففى جنوب أفريقيا على سبيل المثال، لعبت الجالية اليهودية دوراً خطيراً خلال الفترات الأولى من النزاع العربى - الإسرائيلى، ويكفى أن نعلم أن أول طيار يُقتل فى حرب 1948 من الجانب الإسرائيلى كان ضابطاً يهودياً من جنوب أفريقيا يُدعى سد كوهين. وتذكر الكاتبة الصحفية نجلاء عبدالجواد فى كتابها عن «اليهود فى جنوب أفريقيا» أن دولة جنوب أفريقيا امتنعت عن إدانة العدوان الثلاثى فى عام 1956 بفضل حجم تأثير الاتحاد الصهيونى، وطوال هذا العام أخذت صحافة جنوب أفريقيا، بواسطة اليهود الذين سيطروا عليها، موقفاً مؤيداً لكل من إسرائيل وفرنسا وبريطانيا.
المثير أن الخرافة كانت عاملاً أساسياً فى توطيد علاقة إسرائيل بدولة إثيوبيا، فقد التقت كلتاهما على أهداف مشتركة من خلال استغلال إسرائيل الخرافة الإثيوبية حول الأصل العرقى، وهى الخرافة التى كان يؤمن بها الإمبراطور «هيلاسلاسى» الذى كان يعتبر نفسه من أحفاد النبى سليمان من زوجته بلقيس، كما التفتت إسرائيل إلى تحريك أطماع إثيوبيا وسائر دول المنبع فى حوض النيل بشكل سافر، عن طريق تشجيع مؤسسات الدراسات الاستراتيجية الأمريكية، والبعثات إلى الدول الأفريقية المتحكمة فى منابع النيل، وأيضاً عن طريق تشجيع الشركات الأمريكية الواقعة تحت التأثير الصهيونى لتنفيذ مشاريع للرى فى إثيوبيا ودول الحوض.
وأوضحت الكاتبة أن الهدف من هذا التطور فى العلاقات الإثيوبية - الإسرائيلية، كان يتمثل فى استخدام إثيوبيا كورقة ضغط مائية على مصر لإجبارها على تنفيذ المشروع القاضى بمد قناة «ترعة السلام» من صحراء النقب لتغذيتها بنسبة 1% من مياه النيل، إلى جانب إعداد إثيوبيا لدور مركزى إقليمى أكثر أهمية تدور فى فلكه دول مجمع البحار، أى الدولة المشرفة على مضيق باب المندب، ودول مجمع الأنهار، وهى الدول المشرفة على حوض النيل.
وحسبما يرى أيمن عيسى، رئيس مجلس الأعمال المصرى - الإثيوبى، فإن عدم اهتمام مصر السابق بالدول الأفريقية عموماً، وبإثيوبيا خصوصاً، دفع دولاً أخرى إلى سد الفراغ وملء الحيز الذى تركته مصر بعد انسحابها وتخليها عن دورها المنوط بها، ومن بين تلك الدول الصين وتركيا والهند وبالطبع إسرائيل، ويؤكد «عيسى» أن الاستثمارات المصرية فى أفريقيا تحتاج إلى دعم على كافة المستويات، كجزء من قوة مصر الاقتصادية فى أفريقيا، موضحاً أن إجمالى قيمة الاستثمارات المصرية فى إثيوبيا بلغ نحو مليار ونصف المليار دولار، تركزت معظمها فى قطاعات الصناعة والبنية التحتية، وأن عدد الشركات المصرية هناك 115 شركة.
ويلفت «عيسى» النظر إلى أن حجم الاستثمارات الإسرائيلية فى دولة مثل إثيوبيا ليس ضخماً، كما يتصور البعض، مشيراً إلى أن إجمالى استثمارات إسرائيل هناك لا تتعدى قيمة استثمارات شركتين فقط من الشركات المصرية على الأكثر، وتتركز معظمها فى المجال الزراعى، لكن هذا لا ينفى أن هناك تحركات فى قطاعات أخرى على قدر عالٍ من الأهمية تأثير كبير فى العلاقات الإسرائيلية - الأفريقية بشكل عام.