هنا «أبومنقار».. ممر «الخارجين عن القانون» لاستهداف قوات الأمن فى «الفرافرة»
الجبال المرتفعة والصحراء تحيط القرية من كل جانب
هدوء يخيم على جميع أنحاء المنطقة، وكأن الموت رابض فوق بيوتها ذات الدور الواحد، التى ما زال بعضها على هيئته الأولى مبنياً بالحجر الطينى، والبعض الآخر بالطوب الأبيض، وشوارعها فارغة وكأنها ممرات بين القبور، يندر فيها المارة، بينما الكل منهمك فى عمله داخل المزارع التى تحيط بـ«قرية أبومنقار» من كل جانب، ومن خلفها تظهر هضبة القس سعيد شرقاً، وصحراء ممتدة إلى ما لا ترى العين غرباً، حيث تقع بالقرب من أطراف بحر الرمال الأعظم حيث الحدود الليبية - المصرية، وتعد القرية الممر الثانى للمهربين والإرهابيين للعبور من هضبة «القس سعيد» التى تحيط بواحة الفرافرة، بعد طريق «عين الدلة».
القرية تحولت إلى طريق آمن للإرهابيين بسبب انقطاع الكهرباء.. والأهالى: لا نراهم فى جنح الظلام
تقع «أبومنقار» على بعد 90 كم من قصر الفرافرة عاصمة الواحة، ويمتد بينهما طريق تظهر بمجرد المرور عليه مدقات رملية عدة تخترق الصحراء على جابنى الطريق، وتمر من بين الجبال سواء مقبلة من الشرق أو مدبرة نحو الغرب، وعلى مدخل القرية بوابة لحرس الحدود، وهى المظهر الأمنى الوحيد هنا.
حسن أحمد، ببشرته السمراء، أحد شباب قرية أبومنقار، يعمل بائعاً للطوب، جاء والده مع تأسيس الرئيس الراحل جمال عبدالناصر للمنطقة كقرية تقوم على التنمية الزراعية، مبنية حول عين رومانية تحمل الاسم ذاته، وبدأ المشروع بحفر 7 آبار تشكلت حولها تجمعات زراعية داخل القرية، ولكن عملية توطين الأهالى بدأت مع بداية الثمانينات.
«ضياء»: مستحيل أن يكون لنا يد فى استهداف الأمن.. و«عبدالتواب»: الألغام وبحر الرمال لا تمنع المهربين من المرور
ويتمنى «أحمد» لو لم يكن والده جاء به إلى تلك البلدة، التى أصبح وجود اسمها فى خانة السكن ببطاقته الشخصية، بمثابة تهمة تعرضه لكل من يقابله من قوات أمنية على طريق الواحات مقبلة من واحة الداخلة المجاورة لهم، ليعامله كمجرم، أو إرهابى مطلوب، تفتيش ذاتى وإهانات متكررة، وتوقيف لساعات حتى التأكد من هويته، ومع كل عمل إرهابى، تبدأ حملة أمنية مكبرة تقتحم القرية، وتبدأ فى التفتيش فى المنازل.
ولم تكن «الشبهات» التى تحوم حول أهل القرية من فراغ، فوجود القرية بالقرب من أحد الممرين الوحيدين اللذين يسمحان بالدخول من هضبة «القس سعيد»، وضعها ضمن ممر للإرهابيين والمهربين المقبلين من ليبيا، وهى ممر آمن، حيث يحل الظلام الدامس على القرية بمجرد أن يحين الليل، بسبب أزمة نقص الكهرباء، التى تعمل 6 ساعات يومياً فقط وتنقطع عنها بقية اليوم، حسب رواية «إبراهيم منصور» مزارع ستينى العمر، أحد أقدم أهالى القرية لـ«الوطن»، قالها بصوت هادئ، وهو يهمس لنا خلال الترجل عند بير «6»، الذى تنطلق من خلف منازله الريفية ذات الطابق الواحد عربات الإرهابيين ومهربى السلاح المقبلة من ليبيا، الذين يعبرون «بحر الرمال» الذى يعد أكذوبة فلا يقف حائلاً أمام عربات المهربين التى تتخطى أى عائق.
بير «6»، وبير «7»، تقعان فى الجانب الغربى من الطريق، وهو الأقرب إلى الحدود الليبية، وهناك تجمعات زراعية حول آبار المياه، والخضرة تمتد فى قلب الجبال المرتفعة التى تحيط بالمنطقة، ومن بينها تظهر البنايات الريفية الصغيرة، والأبقار المرابطة أمامها، هنا ممر العبور إلى واحة الفرافرة ومصدر القلاقل المقبلة من ليبيا.
الرجل الستينى العجوز بلحيته الكثة، وجلبابه الرث، يقول إن المتسللين لا يدخلون للقرية نفسها، ولكن يمرون من على أطرافها، فهم يأتون من اتجاه بئر «6» والبئر الرومانية القديمة، ولا يتوقع الرجل أن يدخلوا القرية لأن هذا يجبرهم على سلك طريق «النقب» الواصل نحو الفرافرة الطريق الرسمى، وتصل مسافته إلى 100 كيلو، ولكنهم يعبرون من مدق جبلى من هضبة «القس سعيد» التى تحيط بالقرية، وبمجرد العبور منها يكون طريقهم نحو قرية أبوهريرة، ومن خلفها فى الصحراء نحو الواحة لا يتخطى 40 كيلومتراً.
وفى منزله الريفى البسيط، وبجلبابه الصعيدى، يجلس منصور مهدى، وهو رجل ستينى العمر من أوائل الوافدين للقرية فى الثمانينات، وأحد أقدم سكان القرية، ويقول الرجل إن «أبومنقار» منذ قديم الزمن وهى مركز لراحة الرحالة والتجار المقبلين بالجمال من ليبيا إلى السودان، أو القاهرة، ولكن الأزمة الآن فى أن القرية أصبحت مركزاً للمتسللين، بسبب غياب الأمن، فأقرب نقطة شرطة توجد على بعد 100 كيلو متر من هنا بقصر الواحة. ويضيف: «إحنا هنا حدود مفتوحة من جهة غرب، ولا يوجد أى أمن، المزارعون فى القرية لا توجد نقطة شرطة واحدة تحميهم، كما لا يوجد أى شكل من أشكال الأمان داخل القرية أو على أطرافها فلا يوجد عسكرى واحد يؤمنها».
ويتفق عماد عبدالتواب، رئيس القرية، مع هذا الرأى، قائلاً إن «هناك أزمة أمن حقيقية تعانى منها الواحة، وهى ما تسبب فى انتشار التهريب ومرور الإرهاب المقبل من ليبيا حولنا، وبحر الرمال الشهير لا يقف حائلاً أمام المهربين، فهم يعرفون دروبه جيداً، مشيراً إلى أن الحديث عن وجود ألغام أيضاً على الحدود أكذوبة أخرى، ولا تمنع التهريب ولا الإرهاب، وأنه فى بعض الأحيان يصل بهم الأمر لاستخدام الطريق الرسمى الواصل مع رفح.
«فى بلدنا لازم تبقى راس كبيرة عشان تقدر تعيش»، بهذه الكلمات يبدأ عرفات حافظ، أحد مزارعى القرية، صاحب الخمسين عاماً، حديثه، حيث يجد مبرراً واضحاً لعمل بعض أهالى القرية مع المهربين على الحدود الليبية - المصرية، خاصة وهى الأقرب لهم، ويوضح «الحاج عرفات» أن بعضهم يعمل كأدلة والبعض الآخر سائقين، خاصة من الشباب الذى يخرج للحياة ولا يجد قوت يومه فى قرية نائية غير موجودة على خريطة الدولة للتنمية، وفى قرية تعتمد على الزراعة كعمل لجميع الأهالى، حتى من يعملون فى وظائف حكومية هم «فى الآخر وفى الأول فلاحين».
ويستطرد: «الراجل الفقير هنا عشان ياخد فدانين أرض ويحفر له بير ممكن يقعد عشرين سنة يجرى ورا الإجراءات وفى الآخر برضه مش هيحصل على الترخيص لكن المستثمر الدولة بتديه زى ما هو عايز وتديله كل التسهيلات» مشيراً إلى أن القضاء على الإرهاب يكون بالتنمية، وأن الشباب فى المنطقة يحتاجون لرعاية الدولة، والأراضى الشاسعة حول القرية على مدد البصر، وبدلاً من أن تترك كممرات للإرهابيين والمهربين تُعطى للشباب لزراعتها، وقتها سيكونون درع الدولة وحمايتها».
ويصمت الرجل ملياً ثم يعود ليقول بصوت يبدو أكثر هدوءاً: «ما هو الشباب مفيش فلوس ولا فيه أكل عيش لقى عربية طالعة وباعرف أسوق أطلع هسوق 200 كيلو ولا أكتر شوية وأرجع بـ60، ولا 70 ألف جنيه، لو قعد سنين جنب أبوه ولا اشتغل فى شركات الاستثمار مش هيلاقيهم»، لافتاً إلى أن شركات الاستثمار التى تزرع الأراضى فى المنطقة تستغل الشباب وحاجتهم وتشغلهم بالسخرة، «كان زمان اليومية بـ120 جنيه وبعدين فضلت تقل تقل لحد ما وصلت 50 جنيه فى اليوم، تقدر تقولى واحد فاتح بيت ولا شاب بيبنى نفسه يعمل إيه بيها؟».
أما ضياء حسين، أحد الأهالى، فيقول «كما يتهمونا إننا ممر الإرهاب والتهريب لمصر.. نحن أول من تضررنا من العمليات الإرهابية فى المنطقة»، مؤكداً أن القرية أضيرت من حوادث الإرهاب، حيث أجلت الولايات المتحدة رعاياها عن منطقة الواحات بعد الحوادث الإرهابية المتكررة، ما تسبب فى رحيل باحثى «مركز تنمية الصحراء» التابع للجامعة الأمريكية، الذى كان يدعم شباب القرية بمشاريع صغيرة، وأهل القرية بالكثير من الخدمات التى «تغض الحكومة الطرف عنها» بأجهزتها المختلفة، حسب تعبيره، فى ظل الخدمات المتدنية فى القرية، التى يموت أهلها من لدغات العقارب والثعابين، حيث كانت سبباً فى وفاة شقيقه.
ويتذكر «حسين» الشاب العشرينى، الذى يعمل موظفاً حكومياً، حينما خرج برفقة أهالى القرية الذين شكلوا لجاناً شعبية لحماية كمين حرس الحدود المرابط على بوابة القرية من أى هجوم محتمل فى ظل الفوضى التى عمت البلاد، ويقول بنبرة غاضبة إن «الأهالى ليس لهم علاقة بما يحدث حولهم فى الصحراء، وليس لهم علاقة بالإرهابيين لا من قريب ولا من بعيد»، نافياً وجود أى مظاهر «تطرف دينى» بين أهل القرية.