عندما سقط «مبارك» فى البرلمان
"مبارك" في مجلس الشعب
كان الجو مشحوناً بالحديث عن «التوريث»، والكثيرون يزهون بالتأييد ويتفانون فى التقرّب من المقبل. ووصل البعض إلى حد استخدام الأساطير ذات الصبغة الدينية لتعزيز وراثته. وأذكر أن أحد القيادات المسيحية من كبار الأراخنة، وكان يتفانى فى بناء الكنائس والإنفاق عليها وتقارب حتى أصبح عضواً فى المكتب السياسى للحزب الوطنى حاول أن يُفسّر لى سر حماسه المشتعل لتوريث «جمال»، فقال إن نبوءة وردت فى التوراة تقول إنه إذا توالى حرف «م» فى اسم حاكم مصر ثلاث مرات سيكون هناك دمار وكوارث، وواصل فى التفسير محمد أنور السادات ثم محمد حسنى مبارك، فلا بد من اسم يبدأ بحرف آخر غير حرف «م»، لإنقاذ مصر من هذه النبوءة (نلاحظ أن محمد مرسى بعد محمد حسنى، فكان الدمار والكارثة).
رفعت السعيد يكشف: كواليس اللقاء الأول والأخير مع نجل الرئيس الأسبق.. وصفوت الشريف لم يكن يُرحّب بالدور الذى يلعبه «جمال» وإن كان يرضخ له كأمر واقع مع تواتر الأخبار بأن وزراء تلقوا تعليمات هامسة بعرض «البوسطة» على «جمال»
المهم تكرر الحديث عن لقاء مع «جمال»، ولا أنا تحمست من جانبى ولا تحدّد موعد من جانبهم، حتى كان يوم التقيت فيه بصديق للرئيس وقريب مقرّب من السيدة سوزان، ويحيط به الحالمون بصحبته ولو لدقائق، لينعموا براحة السلطة الممتعة، وانتحيت به جانباً وسألته «صحيح صاحبك عايز يورثنا لابنه». هاج الصديق وأكد نافياً، وقال عبارات لم أزل أذكرها، هو نفسه أكد لى أنه رافض وقال لى قول لقريبتك إن دى مش عزبة أبويا علشان أورثها لابنى. ثم أضاف صديقى، قائلاً: «الغريب أنه قال بعدها أنا خايف على الولد، لأنه كده قد يُستهدف من جانب من لا يريدونه». وبعدها سألنى صحفى أجنبى، فى ما أذكر أنه ديفيد هرست: «هل هناك توريث؟» فأجبت بلهجة الواثق «أعتقد أن مبارك لا يريد ذلك ولن يفعلها»، لكن بعد أيام، وكان هناك احتفال ودُعيت إليه، وفيما نحن نخرج صاح بى «مبارك» بصوت عالٍ: «إزيك يا رفعت يا زئبقى»، واقتربت من الرئيس لأستوضحه، ويبدو أننى تجاوزت، فوضعت يدى على كتف الرئيس، فانطلق حبيب العادلى ليزيح يدى من على كتف الرئيس، باعتبار أن هذا تباسُط غير مسموح به، وابتسم «مبارك» قائلاً لـ«العادلى»: «ابعد عنه، مهما حاولت مش هتفهمه، ده زئبقى»، ولم أفهم ماذا يقصد، وبعدها التقيت بالصديق الذى ما إن رآنى حتى أسرع هامساً: «علشان ما اطلعش كداب فى نظرك دلوقتى الراجل غير موقفه ووافق على التوريث، وربنا يستر».. وفهمت معنى «الزئبقى».
وجّه «جمال» الدعوة إلى سفراء أجانب فى مؤتمر لقيادات «الوطنى» وتلقيت مكالمة تدعونى إلى الحوار: «سيكون مقعدك فى الصف الأول».. وسألت: هل ستُتاح الفرصة للحديث؟.. فقالوا: «للأسف لأ».. فقلت: «أنا لا أصبح ديكوراً».. وأحد القيادات المسيحية من كبار «الأراخنة» تقارب حتى أصبح عضواً فى المكتب السياسى للحزب الوطنى حاول أن يُفسر لى سر حماسه المشتعل لتوريث الحكم لجمال مبارك.. فقال إن توليه ضرورة لتجنُّب نبوءة التوراة
وأعود إلى «الأستاذ جمال عايز يشوفك»، فحدّدت موعداً لأستطلع ملامح الرئيس المقبل، وما إن اقتربت من مدخل ملحق مبنى الحزب الوطنى، حيث يوجد مكتب «الأستاذ جمال»، حتى كانت الاستعدادات توحى بالاهتمام وتبادل الهمسات عبر الأجهزة، الأسانسير منتظر، رغم وقوف البعض منتظرين الأسانسير الآخر، هو دور واحد، ولا يستحق الأسانسير، لكن أحد الواقفين فى الانتظار همس «الأستاذ جمال منتظر فوق على باب الأسانسير»، ووجدته مرحباً بشدة واصطحبنى إلى مكتبه، وكنت قد أعددت له مفاجأة، فقد حاولت أن أحذر القادم الجديد إلى الرئاسة من جيوش النفاق، فأعددت ورقة بها بيتى شعر كتبتهما بخط واضح.. وتذكرت وأنا أكتبهما أننى وأثناء المقابلة الأولى مع «مبارك» بعد توليه الرئاسة بأيام، حيث استدعانا خالد محيى الدين -يحيى الجمل- وأنا فى الجلسة تطاولت (هكذا وصف الأستاذ خالد تصرّفى)، فقلت «سيادة الرئيس خللى بالك من جيوش المنافقين»، فأجابنى بضحكة قائلاً: «ماتخافش عليا، أنا فاهمهم كويس»، لكنه بعد فترة أصبح يستمتع بالنفاق، صحيح أنه كان يوحى بأنه لا يحترم المنافق، لكنه فى الواقع كان يستمتع بلذة النفاق، المهم أن «جمال» بدأ حديثه بأن نقل تحيات الرئيس، وقال: «الريس قال لى كلام كتير على حضرتك، وأنا سعيد أن أستمع إليك»، فأخرجت من جيبى الورقة وقرأت له:
من الأحباب مختص بوجد وآخر يدعو معه اشتراكاً
إذا اشتبكت دموع مع خدود تبين من بكى ممن تباكى
أنصت وشرحت له المقصود وأعطيته الورقة وقلت له احتفظ بها وطالعها كلما أحاط بك المنافقون.. وبدأنا الحوار، هو كان يسأل فى أغلب الأحوال، لكن الأسئلة كانت ذكية، وكان الأدب الشديد يُغلف الكلمات، وبعد فترة دخل شخص من السكرتارية، وناوله ورقة قرأها، وانتظر حتى أنهيت كلامى، ثم قال فيه خبر أن زوجة د. نظيف توفيت والجنازة فى مسجد آل رشدان بعد صلاة الظهر. ونظر فى ساعته وفهمت، فقلت: «نقوم علشان نلحق الجنازة».
وربما أتى الأمر مصادفة أو استعجالاً أو مرتباً، صمم الأستاذ جمال وسط دهشة الواقفين فى الطرقات وأمام الأسانسير على أن يصطحبنى، ولما قلت أنا أُفضّل أن أنزل على السلم نزل معى، ثم رافقنى حتى باب سيارتى، سلم بحرارة.. وكانت الجلسة الأولى.. والأخيرة. لكن الأمور لم تتهادِ هكذا. فعندما احتفلنا بعيد تأسيس حزبنا، كان المعتاد أن يحضر مندوب «دون الإعلان أنه مندوب» عن الحزب الوطنى. لكن لم يحضر أحد، وإنما كان هناك عدد كثيف من أعضاء «الشورى»، وفيهم قيادات فى «الوطنى»، وقد أتوا مجاملة لى، وحرصت على أن أسألهم: «هل طلب أحد منكم الحضور كممثلين عن الحزب؟»، وكانت الإجابة بالنفى المصحوب بالاستهجان من مسلك القيادة، ولاحظت فى منتصف الاحتفال «سَبَت ورد» يتهادى، وعليه بطاقة من صفوت الشريف. وعلى أى حال فقد كانت هناك جلسة ختامية لمؤتمر الحزب الوطنى ووجهت إلىّ دعوة، والمثير للدهشة أنهم كانوا حريصين على حضورى، وأذكر أن عدداً من القيادات بالحزب الوطنى سألونى إن شاء الله حتحضر الحفل الختامى، وكانت إجابتى مع الجميع: «إن شاء الله لن أحضر». وبعد إلحاح الكثيرين (ولست أدرى لماذا؟) قلت: «أرسلوا وروداً وسنرسل وروداً»، ولم أكن أعرف أن ورود الكبار غالية جداً إلا عندما أتت لى فاتورة الورد.
صديق لـ«مبارك» قال لى «الريس قال دى مش عزبة أبويا علشان أورثها لابنى.. وبعدها وافق على التوريث».. وصاح بى «مبارك»: «إزيك يا زئبقى؟».. واقتربت من الرئيس لأستوضحه.. ويبدو أننى تجاوزت فوضعت يدى على كتفه فانطلق «العادلى» ليزيحها.. وابتسم «مبارك» قائلاً: «ابعد عنه.. مش هتفهمه»
■ ■ ■
واستكمالاً للحكايات مع وعن «الأستاذ جمال».. أتى د. محمد كمال مبتسماً، وقال: «فلان سيسألك عنى فقل شهادة خير». وقال إنه تقدم للزواج من بنت أحد أصهارى، وأن الرجل استقبل حديثه عن وضعه فى لجنة السياسات بلا اكتراث، واعتبر أن ذلك لا يعنى شيئاً ولا حتى عضوية «الشورى» لفتت انتباه والد العروسة الذى يعمل أستاذاً جامعياً مرموقاً، لكنه سليل أسرة من رجال الأعمال الأثرياء، الذين لا يعترفون بلعبة السياسة (خاصة أنهم شهود على ما كان قد أصابنى وأصاب أسرتى بسبب السياسة، وحتى هم أصابهم رذاذ من ذلك).
وكلمنى صهرى، وقلت خيراً فى الرجل، ومع عقد القران جاءت من صهرى بطاقة دعوة شديدة الأناقة ومكان الفرح قصر محمد على فى شبرا. وبالتليفون سألت أبوالعروسة.. إيه اللى وداكم هذا القصر الذى لم يسبق أن عُقدت فيه أفراح ولا حتى أفراح الأسرة المالكة. فقال اختاروه لأن جمال مبارك سيحضر، وأبدى أبوالعروسة عدم رضائه عن وضعه شخصياً «فى هذا الاستثناء»، وفكرت طويلاً، خصوصاً أن كل الأسرة بجميع فروعها (الغنية فقط طبعاً) سوف تأتى من المنصورة، ومدى ملاءمة أن أحضر، لكننى فى نهاية الأمر قررت عدم الحضور، واكتفيت بورود. وأذكر أن عادل حمودة أثار القضية، وكيف أن «الأستاذ جمال» أمر باستخدام القصر المهيب لفرح سكرتيره؟ ولست أدرى كيف عرف البعض بصلة المصاهرة، وربما لأن الجميع عرفوا أن أسرة من المنصورة، وتوالت أسئلة الصحفيين. هل حضرت؟ من حضر؟ ما صلة القرابة؟.. وأدركت أن عدم حضورى كان الحل الصحيح.. وبعدها أكد لى والد العروسة احترامه لقرارى بعدم الحضور.. والمهم أن العريس وجد نفسه فى مأزق عندما حُوصر من بعض الصحفيين كيف؟ ولماذا؟ وأجاب لم يكن عقد قران وإنما حفل استقبال. لكنه كان عقد قران، أو هكذا كانت تقول بطاقة الدعوة.
■ ■ ■
وأعود لألاحظ أن صفوت الشريف كان غير مرحّب بالدور الذى يلعبه «الأستاذ جمال»، وإن كان يرضخ له كأمر واقع، خصوصاً مع تواتر الأخبار بأن كثيرين من الوزراء تلقوا تعليمات هامسة بأن يعرضوا «البوسطة» على «جمال» بدلاً من الرئيس. وأن الاستثناء كان فقط وزارات «الدفاع - الداخلية - الخارجية».. وما عدا ذلك فكان تحت إدارة «جمال».. وبدأ إقرار الأمر الواقع يسرى.. وأذكر واقعة ذات مغزى، فقد أتى الأخ فرج الرواس إلى عضوية مجلس الشورى عقب انتخابات دعمه فيها فتحى سرور، ثم ومع التجديد وقف فتحى سرور ضده بضراوة، وحاول الرجل أن يستعين بعدد من شخصيات مجلس الشورى فكلمنى وأشرت عليه بعقد مؤتمر انتخابى، وأن يدعو إليه وكيل المجلس المستشار عبدالرحمن فرج محسن، والدكتور خلاف عبدالجابر خلاف، أمين اللجنة الاقتصادية، وطلب أن أحضر فى المؤتمر، فقلت سأستشير زملائى فى حى السيدة، واستشرتهم، فقالوا «لا تحضر أنت، ولكن اطلب منه أن يدعو أحدنا للحديث فى المؤتمر، وسوف نعلن نحن تأييدنا لترشيحه». وعُقد المؤتمر، ويبدو أن فرج الرواس فهم أننى تعرّضت لضغوط، فتحايلت وكلفت أحد زملائنا لإعلان تأييدى. وبعد المؤتمر تزايدت ضغوط فتحى سرور مع تزايد فرص نجاح الرواس بفضل نفوذه العائلى فى المدبح وإنفاقه الذى بلا حدود. ومع الضغوط الأمنية التى أمر بها فتحى سرور، ومجاملة كمال الشاذلى لـ«سرور»، قرر «الرواس» تفجير الأمر علناً. وكان «جمال» يحضر مؤتمراً للحزب الوطنى فى أسيوط، فذهب «الرواس» إلى هناك بحجة أنه ذاهب لواجب عزاء، ثم دخل الاحتفال، وبعد أن تحدّث «جمال» وفتح باب الحديث طلب «الرواس» الكلمة.. وقال إن فتحى سرور يطارده، رغم أنه ابن الحزب الوطنى ومرشحه وأن الضغوط طالبت من حضروا مؤتمره الانتخابى من أعضاء الشورى، وطالبت مسئول حزب التجمع فى السيدة، لأنه حمل رسالة تأييد منى إليه.. كنت فى مارينا، وكان «سرور» فى جنيف، ووصله الخبر وكلمنى مفزوعاً.. من وصول هذه الشكوى إلى الأستاذ جمال شخصياً، وسألنى هل اتصل بك أحد من الرئاسة أو من عند الأستاذ جمال، وكنت مندهشاً من فزع رئيس مجلس الشعب إلى هذا الحد، فقلت له لم يتصل بى أحد، ولا يجرؤ أحد أن يسألنى فى هذا الأمر.. ووصلت المكالمة إلى الأستاذ جمال.
طلب منى صديق كويتى التوسط للإفراج عن الأسرى الموجودين فى العراق وعلم عمر سليمان فقال: معلوماتنا إنه مفيش أسرى وأبلغنى بعدها طارق عزيز أنهم لا يحتجزون أى أسير ولكنهم يريدون إرباك الأسرة الحاكمة.. وعلمت باستشهاد شابَّين فى محيط «محمد محمود» فأعلنت على الهواء أن لدىَّ موعداً مع مدير المخابرات وأنا ألغيه الآن على الهواء ولن أقابله
ثم كانت واقعة أخرى، حيث وجّه «الأستاذ جمال» الدعوة إلى سفراء كثير من الدول الأوروبية ليتحاور معهم فى مؤتمر لقيادات الحزب الوطنى يُعقد فى وزارة الاستثمار. وتلقيت مكالمة تدعونى إلى الحوار، وتبلغنى بأنه «سيكون مقعدك فى الصف الأول» (كان ذلك مغرياً)، وسألت: «هل ستتاح الفرصة للحديث؟»، فقالوا «للأسف لا». فقلت: «للأسف لن أحضر أنا لأصبح ديكوراً».. وتراكمت امتعاضات متبادلة.. لكن كلينا حاذر من أى تصادم.
■ ■ ■
وأذكر أن الرجل المبتسم زميل نادى الجزيرة (هل تذكرونه) تحدّث فى إحدى مقابلاته الخاطفة، وقال «سمعت ومش متأكد من صحة الخبر. أن المشير وعمر سليمان قابلا الرئيس معاً. وقالا له: أنت أستاذنا ورئيسنا، ونحن مدينون لك بالطاعة والولاء، لكن الأخ جمال لم يزل لم ينضج بعد، وحوله شلة فاسدة وتستغل علاقتها به لمزيد من الفساد، ومن ثم فإن أمر توريثه يحتاج إلى مزيد من التروى، لأن ذلك قد يُحدث هزة فى البلد».
وختم المبتسم روايته مبتسماً، وقائلاً إنه مش متأكد من صحة هذه الحكاية.. ومن ثم فإننى أرويها ولست متأكداً من صحتها..
وأذكر أيضاً (وهذا أنا متأكد منه، لأن من رواه لى كان حاضراً بنفسه) أنه خلال إلقاء الرئيس مبارك خطاب افتتاح دورة البرلمان بمجلسيه، انتابته حالة تُشبه الإغماء، لكنها لم تكن إغماءً بالمعنى المفهوم، وكان إلى جوارى محمود الشناوى، والرئيس على بُعد صفين أو ثلاثة، ويبدو أنه أدرك أن الرئيس على وشك الانهيار، فصاح به «كفاية يا ريس»، فأخرج «مبارك» منديله ومسح عرقاً غزيراً، وسأل فى همس مسموع «الدنيا حر ليه»، ثم تدافعت كلمات مرتبكة ومتداخلة، وهنا قفز شخص مدنى (من الحرس الرئاسى) من أعلى مقصورة بالقاعة ونزل ثابتاً على قدميه، وأخرجوا الرئيس، كان يقاوم بعناد أن يبدو متهالكاً، لكنه خرج وخلفه د. فتحى سرور، وصفوت الشريف، والمشير، وأغلق الباب فى وجه الآخرين. وفيما تلف الحيرة الجميع، صاح شيخ الأزهر الشيخ طنطاوى: «ادفعوا البلاء بالدعاء»، ورفع صوته: «يا رب»، وردّدها خلفه أعضاء المجلسين، وظل الصياح الجماعى فى مشهد مثير للدهشة.. وربما للسخرية.. وفجأة فتح الباب، وصاح أحدهم: «الدكتور حمدى السيد يتفضل»، وخرج حمدى السيد لخمس دقائق، ثم عاد ليهمس فى أذنى: «لسه قاعد على قلبنا»، وكان «جمال» قد نزل من المقصورة، وقال بصوت آمر «استدعوا الإسعاف، ليُسرع بالرئيس إلى موقع الهليكوبتر فى الجزيرة». وقال لى أحد الحاضرين إن صفوت الشريف صاح موجهاً كلامه إلى لا أحد: «بلاش لعب عيال.. مش عايزين ارتباك وسط الناس ويهز البلد أمام العالم والرئيس كويس..»، ومرة أخرى فتح الباب «الدكتور مصطفى الفقى» وأدرك الحضور أن «الفقى» مطلوب لاختصار ما تبقى من الخطاب، فيحضر الرئيس ويلقيه. وسمعت فى سهرة عادية حضرها «الشريف» قوله إنهم فى الرئاسة «طلبوا من الفقير إعداد خطاب لا يتجاوز إلقاؤه 20 دقيقة، لأن الرئيس تعبان وعنده برد، لكن «الفقى» أطال كالعادة، ودخل فى عشرات المواضيع وتحدّث الرئيس أكثر من ساعة، ولم تزل أغلب الصفحات لم تقرأ. وشخط «الشريف» فى «الفقى» اختصر ليتحدث الرئيس خمس دقائق فقط.. ودخل الرئيس ليُستقبل بتصفيق حاد.. تأملت المشهد وتساءلت فى سرى: «هل كان هذا حباً؟ أم بعضه حب، وبعضه خوف على استقرار البلد، أم بعضه خوف من جمال ورجاله الذين توحشوا فى فرض نفوذهم». وسريعاً أنهى «مبارك» ما تبقى من دقائق.
لكننى أعتقد أن عبارة: «بلاش لعب عيال» تركت جرحاً فى العلاقة بين «الشريف» و«جمال»، وأن «الشريف» انتشى بما أبداه من ثبات فى معالجة الموقف، محاذراً فى الوقت نفسه وبحرص شديد على عدم التصادم.
■ ■ ■
مع الوزير عمر سليمان
ولقد امتد عمق العلاقة المشاغبة مع رجل المخابرات المصرية العتيد لسنوات الثمانينات عندما كانت جريدة الأهالى لم تزل تتخذ مقراً لها فى شارع بعد الخالق ثروت، حضر إلىّ الساعى عم عبدالعليم المسئول عن فتح المقر وإغلاقه ليبلغنى أن شخصين تلقفاه فى الشارع أمام مقر الجريدة وأبلغاه أنهما من «المخابرات العامة» ويطلبان منه أن يسلمهما نسخة من مفاتيح المقر، ولما تردد متسائلاً كيف يعرف أنهما من المخابرات؟ قطع أحدهما ورقة من مفكرة صغيرة وكتب عليها رقمى تليفون «أرضى» وأن يطلب «المهندس فلان وسيرد عليه أحدهما»، وكان الرجل مرعوباً، وأخذت منه الورقة الصغيرة وبعدها جلست مع الأستاذ خالد وبحماس منفعل قلت أقترح أن يطلب عم عبدالعليم أحد الرقمين ويطلب مقابلتهما وفى الموعد أذهب معه وألقنهما درساً، قال الأستاذ خالد تعلم ألا تلاعب النمر، وتكلم تليفونياً مع الوزير طالباً مقابلة لنا معه، كان الوزير عمر سليمان كما رأيته لأول مرة هادئاً وواثقاً من نفسه ويعرف متى وكيف يرسم ابتسامة تأتى فى ذات معان متعددة، واعتقدت منذ الوهلة الأولى أنه يعرف لماذا كانت هذه الزيارة، وشرح الأستاذ خالد الموضوع وقال أنا أعتقد أن المسألة مش مسألة المفاتيح، فأنتم تستطيعون الدخول حتى من تحت عقب الباب، وكانت الابتسامة الأولى مصحوبة بعبارة «مش للدرجة دى»، ثم وعندما حاولت أنا أتكلم أراح هو ظهره على المقعد المريح بطبيعته، ووجه كلامه لى سائلاً «هو مقر الأهالى فين؟» وهكذا استدرجنى إلى ما يريد، قلت بشارع عبدالخالق ثروت، قال والشارع ده فين؟ فقلت مندهشاً فى وسط البلد، وتمادى «أنهى بلد؟» ورغم أننى فهمت اضطررت للإجابة قائلاً «القاهرة» وقال بهدوء مصنوع بإتقان «يعنى جوه مصر احنا نشاطنا مقصور على ما هو خارج مصر، وفيما أستعد لهجوم مضاد، قال الأستاذ خالد بهدوء يليق به وبالوزير، يبقى حضرتك تسمح لنا أن نبلغ النيابة عن هذين الشخصين، لأنهم كده يبقوا نصابين أو لصوص؟ وهكذا تناطح الهدوء مع الهدوء، وأجاب الوزير متجاوزاً تحدى الأستاذ خالد: هى الورقة دى فين؟ وأخذها ولاحظ الرقمين، وأنا قلت مغتاظاً أنا مطلبتش الرقمين ممكن حضرتك تطلب رقم منهم؟ فرد بهدوء ازداد عمقاً «مالوش لازمة» وشربنا القهوة وانصرفنا دون أية كلمة زائدة، وكأن شيئاً لم يكن، لكن الشخصين اختفيا وظللنا، الأستاذ خالد وأنا، لم نعثر على إجابة للسؤال المحير لماذا؟
■ ■ ■
وبمناسبة الحديث مع الوزير عمر سليمان عنه انحنت ذاكرتى إلى واقعة جانبية، كنت ضمن وفد للشورى بالكويت، وكان أحد نواب مجلس الأمة الكويتى يتواصل بالعلاقة مع الوفد المصرى، وخلال زيارة مقررة لكل الوفود حيث صور بعض من كانوا يسمونهم الأسرى الكويتيين لدى العراق خلال فترة الغزو العراقى للكويت، وكانت الصور مؤلمة لأطفال وشباب وشابات وكهول.. وفيما يسود الألم المناخ العام سحبنى النائب الخرينج وكان أحد المسئولين فى لجنة الدفاع عن الأسرى، وسألنى «هل صحيح أنك صديق للقيادى الفلسطينى عبدالله حورانى؟» فقلت مندهشاً صحيح وهو صديق عزيز وشخصية محترمة، فقال الخرينج طبعاً طبعاً، وفى المساء دعيت إلى لقاء مغلق كان الخرينج حاضراً ومعه شخصان وطلبوا منى أن أرتب لقاء مع عبدالله حورانى، فهو وفق تعبيرهم واصل مع القيادة العراقية، ونريد وساطته لتفاهم حول الطلبات العراقية للإفراج عن الأسرى، وفى صباح اليوم غادرنا الكويت وفى الطائرة جلست إلى جوار د. مصطفى كمال حلمى وحكيت له، فقال يجب أن نبلغ الوزير عمر سليمان لنعرف رأيه هل تتدخل أنت فى هذا الأمر أم لا؟ وفور عودتنا ويبدو أن د. مصطفى كان متعجلاً فوجئ بمكالمة من الوزير (كانت مباشرة دون مرور عبر السكرتارية) كان ودوداً جداً وقال: الحقيقة إن معلوماتنا إن مفيش أسرى، لكن طالما هم طلبوا مساعدتنا أرجوك ساعدهم قدر الإمكان، واتصلت بعبدالله حورانى ورتبت له لقاء مع النائب الخرينج، جلسنا ثلاثتنا فى نادى السيارات. ولما عرف حورانى الموضوع بادرنا قائلاً: أنا لا أعرف إذا كان هناك أسرى أم لا، ولكننى كمسجون سابق أعرف أن فى كل سجن مهما كان يمكن أن يوجد «ملاك» أو حتى «مرتشى» يمكنه أن يسرب أخباراً عنهم، وقلت أنا على العموم أرجوك أن تحاول وأن تبذل جهدك، فقال أعتقد أن الشخص الذى يمكن سؤاله فى هذا الأمر هو «الرفيق طارق عزيز»، فقلت أنت تعرف أنه صديقى فانقل له رجائى، ولأن الأمر يتطلب ترتيبات متعلقة بنفقات السفر وغيرها وجدت أنه من الأفضل أن أكتفى أنا بذلك وغادرت، وبعدها جاء حورانى مرة أخرى إلى القاهرة ونقل لى رسالة من طارق عزيز يؤكد فيها هو لى شخصياً أنه لا يوجد أسرى.. وأن التعليمات هى عدم نفى وجود أسرى رسمياً ليبقى الأمر مربكاً للسلطات الكويتية، وسألت حورانى وماذا ستقول للأخ الخرينج قال: إن الإجابات التى اتفق عليها مع طارق عزيز هى: يقول العراقيون إن هذا الأمر ليس محل نقاش. وبعدها بنصف ساعة اتصل بى الوزير عمر سليمان، وقال ضاحكاً: لم أكن أعرف أنك صديق لطارق عزيز، وعرفت أنهم عرفوا التفاصيل، فقلت المهم أنا مش عارف حاقول إيه للأخ الخرينج: فقال اترك لى هذه المسألة، وتركتها.
أثناء المقابلة الأولى مع «مبارك» قلت له: «سيادة الرئيس.. خللى بالك من جيوش المنافقين»، فأجابنى بضحكة قائلاً: «ماتخافش عليا أنا فاهمهم كويس».. لكنه بعد فترة أصبح يستمتع بالنفاق.. وبدأ «جمال» حديثه بأن نقل تحيات الرئيس.. وقال: «الريس قال لى كلام كتير عن حضرتك.. وأنا سعيد أن أستمع إليك».. ورافقنى حتى باب سيارتى وسلم بحرارة وكانت الجلسة الأولى والأخيرة
وسنوات طويلة مضت حتى زارنى واحد من رجال المخابرات فى منتصف أحداث يناير 2011 وقال: معالى الوزير عايز يقابلك، والتقينا فى مقر رئاسة الوزراء، وتبدى الأمر من بدايته وكأن له مكتباً وسكرتارية وترتيبات أمنية خاصة به هناك، استقبلنى الوزير مرحباً وكأننا أصدقاء قدامى، وسألنى ما رأيك؟ وقلت رأيى بغاية الصراحة وقلت الهروب إلى الأمام لا يجدى، وكلما طال الأمر تضاعفت المطالب الجماهيرية.. ولا بد من حل جذرى، فقال يعنى إيه جذرى؟ قلت يعنى جذرى أى القبول الفورى لمطالب «الميدان» والإطاحة برؤوس الفساد، وهم ذاتهم رؤوس النظام وأن يعترف الرئيس علناً ودون مواربة بالأخطاء كاملة، وأن يؤكد صراحة أنه لا توريث وأنه لن يترشح فى الدورة الرئاسية المقبلة لا هو ولا ابنه، كان ينصت بلا مقاطعة حتى انتهيت، فوقف وسلم علىَّ طالباً للجالس الذى كان يكتب كل حرف قلته وهو بالمناسبة ذات الشخص الذى رتب اللقاء «ابعت لى المحضر فوراً».
وبعدها بيوم دعيت إلى اجتماع مع عديد من رؤساء الأحزاب وقادة العمل السياسى، وفيما يسير ذات الشخص (الذى يبدو وكأنه مدير مكتب الوزير فى هذه المهمة) همس فى أذنى: معالى الوزير يرجو أن تخفف من المطالب حتى يتمكن أن يناقشها هو مع الرئيس.
وكان ترتيب الجلوس مثيراً للدهشة، الوزير وأنا إلى يساره مباشرة ود. حسام بدراوى الأمين العام للحزب الوطنى على يمينه وبعده سيد البدوى وعلى يسارى أنا الدكتور سعد الكتاتنى النجم الإخوانى الذى سطع فى هذه الأيام (ربما لإخفاء النجوم الأصليين) بدأ الوزير الجلسة بكلمة قصيرة جداً، تقول باختصار نحن فى أزمة حقيقية ونتمنى أن يراعى الجميع ذلك وأن نسعى معاً لحماية الوطن، ثم ولمزيد من الدهشة أعطانى الكلمة، فقلت ما سبق قلته له وإنما برفق ودون إفصاح صريح ولكن الفهم متاح لمن يريد، ثم أعطى الكلمة للدكتور حسام ليلقى كلمته كأمين عام للحزب الحاكم فإذا بحسام بدراوى يزيد الدهشة دهشة أخرى، إذ قال وبإيجاز محكم «أنا متفق تماماً مع ما قاله رفعت السعيد»، واكتفى به، وخيمت الدهشة على الجميع.. وسار الاجتماع فى هذا المسار تقريباً حتى سعد الكتاتنى رغم التواء كلماته فإنه لم يرفض.
وانتهى الاجتماع لنخرج ونفاجأ بعدها ببيان يفترض أنه يعكس ما توصل إليه الاجتماع، لكنه قال كلاماً آخر يمكن أن يفهم على أكثر من وجه، واتصلت بالسكرتير، أو مدير المكتب سيان، وأبديت غضبى قائلاً: هى المرة الأولى والأخيرة التى أحضر فيها لقاء كهذا، الرجل اعتذر بأدب وبعدها بقليل اتصل ليبلغنى بموعد عاجل وهام جداً مع الوزير منفرداً فى التاسعة والنصف صباح اليوم التالى بمقر مجلس الوزراء. وفيما أحاول الاعتراض ألح بأن الأمر هام جداً، وفى اليوم التالى دعيت للحديث فى برنامج «صباح الخير يا مصر» وفيما أتجه إلى ماسبيرو مررت على مجلس الشورى لأحصل على بعض المعلومات عن المعارك الدائرة حول مبنى وزارة الداخلية وشارع محمد محمود.. وهالنى أصوات بنادق آلية.. مصوبة بقدر أو بآخر إلى صدور الشباب.. وكنت قد تلقيت فى الصباح نبأ استشهاد اثنين من شباب حزبنا فتوجهت إلى ماسبيرو وأنا أغلى، وما إن دارت الكاميرات حتى قلت لمقدم البرنامج لدىَّ خبر عاجل جداً، فقال تفضل وقلت «سبق أن حددوا لى موعداً قيل إنه هام جداً مع الوزير عمر سليمان، وأنا أبلغه الآن على الهواء مباشرة أننى لن أذهب لمقابلته، فليس ممكناً أن أذهب لأتفاهم معه على أى شىء حتى ولو كان مهماً جداً بينما الرصاص يغتال المزيد من الشهداء»، فقال مقدم البرنامج: لماذا لا تذهب وتقول له ما تريد؟ قلت إن ضميرى لا يسمح لى بمجرد المقابلة فى ظل هذه الأوضاع، وبعدها اتصل ذات السكرتير أو مدير المكتب وقال للأسف كان الاجتماع مهماً جداً، فقلت لا يوجد أهم من دماء الشهداء، فقط أضيف أننى بعد ماسبيرو توجهت إلى جلسة الشورى وعلمت أن ترتيبات تجرى لتشكيل حكومة جديدة، وحمدت الله أن نجانى من هذه المقابلة، وكان هذا الموعد الأخير مع صقر المخابرات المصرية العتيد.
وزير داخلية سابق
كنت دوماً ولم أزل أتساءل فى صمت ماذا يفعل وزراء الداخلية بالذات بأنفسهم عقب مغادرة المنصب؟ فهم ليسوا كغيرهم من الوزراء الذين يتولون وبعد فترة مواقع دولية أو فى شركات كبرى، أو يؤسسون جمعيات ثقافية أو اجتماعية، فهم لم يعودوا مجرد لواءات شرطة يصلحون كمحافظين أو مديرى أمن فى شركات، لكننى دُهشت عندما فوجئت بوزير داخلية سابق يمكن القول إنه من وزراء يناير وهو يأتى إلى مكتبى بلا حراسة ولا مرافقين ليطلب عديداً من أعداد مجلتنا «أدب ونقد»، وقال إنه مهتم بالنقد الأدبى ويريد أن يتابع ما فاته وهو وزير، وبعد أن قدمت له ما أراد بدأنا نشرب القهوة وندردش حول الأوضاع التى كانت لم تزل غير مستقرة (كانت زيارته فى منتصف 2014) وانحنى الحديث عبر أسئلة من جانبى ليقدم معلومتين هو مسئول عنهما، لكننى أسردهما لأهميتهما وليس أكثر.
الأولى حول قصة سيارات السفارة الأمريكية التى دهست الكثيرين من شباب الميدان ثم أبلغت السفارة أنها سبق أن سُرقت.
قال الوزير إن الجميع يعلمون أن سيارات السفارة مبرمجة إلكترونياً، بحيث لا يمكنها أن تتحرك من مكانها إلا باستخدام كارت ممغنط خاص بها وبه Pass word لا يعرفه إلا صاحبها أو سائقها.
أما المعلومة الثانية فقد أتت عبر المقارنة بين حشود يناير و30 يونيو، فقال الوزير كانت هناك ولم تزل مبالغات حول المحتشدين فى التحرير خلال أحداث يناير، وقدم معلومة مثيرة للدهشة.. لقد حسبنا مساحة الشوارع والأرصفة فى المنطقة المحيطة بالتحرير والممتدة من دار الحكمة بشارع قصر العينى ثم إلى ميدان طلعت حرب ومع امتداد القوس إلى ميدان عبدالمنعم رياض، وامتداده من طرفه الآخر حتى باب اللوق.. ثم من الناحية الأخرى حتى كوبرى قصر النيل.. هذه المساحة مجملها ثمانون ألف متر مربع، وإذا تصورنا أن المتظاهرين لو تلاصقوا معاً وتم ترصيصهم كزجاجات الكوكاكولا فى صناديقها وبحيث لا يستطيع أحد أن يتحرك أو يتنفس فإن المتر المربع لا يحتمل سوى تسعة أفراد، ثم أضاف: قول عشرة يبقى أقصى عدد كان فى قمة الاحتشاد 800000 بينما يونيو 2013 كان وفق جوجل 30 مليوناً وابتسم قائلاً الفرق كبير قوى.
وباليقين يحمل وزراء الداخلية كثيراً من أسرار كهذه.. ولهذا فالمطلوب منهم هو أن يعتكفوا فى بيوتهم.
جلسة الشورى الأخيرة
لم يعلن أحد أنها الأخيرة، لكن أى قارئ جاد للأحداث كان يتوقع ذلك بنسبة كبيرة. فقد كان الطريق إلى المجلس مشحوناً بسيارات محترقة وعربات أمن مركزى مدمرة وتسد الطريق، إنها رائحة لا تخطئها الأنف الذى يمتلك بعضاً من الحساسية. القاعة تخيم عليها الكآبة رغم تظاهر البعض بالحيوية، وقيادات الوطنى تراكمت فى غرفة زعيم الأغلبية لتدخل القاعة معاً وهى تتضاحك وكأن الجلسة واحدة من الجلسات العادية.
السيد صفوت الشريف أكثر تجهماً عن ذى قبل ربما لأنه يعرف أكثر من غيره، اللواء رفعت مطاوع، نائب الأمين العام والصديق الحميم للكثيرين، يغمرهم دوماً بابتسامة مشرقة وثلاجة مليئة دوماً بـ«الزبادى والرز بلبن» يتناولها كل من شاء كما يشاء، كان هذا اليوم بلا ابتسامة، فهو ليس ساذجاً كالكثيرين، وحتى الساعى نسى أو تناسى تعبئة الثلاجة.. والغرفة باختصار صامتة وكأنها فى حالة وداع. المتجهم صفوت الشريف افتتح الجلسة لمناقشة الوضع السياسى الراهن، أنا كنت مستعداً، كتبت كلمتى على غير المعتاد، وطبعت منها عشرين نسخة، وزعتها على الصحفيين المتراكمين فى شرف الصحافة، وكأننى كنت أدرك أن مناخ الجلسة لن يسمح لى بإكمال ما أعددت. تحدث زعيم الأغلبية.. ولا جديد، الولاء للرئيس، الحزم مطلوب، وبحث المشكلات سريعاً.. وبعد أن ساد الملل من كلمات متشابهة حتى فى طريقة الأداء ومن تكرار ذات الجمل التى ورثها الناصريون من قيادات منظمة الشباب ثم ظلوا يرددونها حتى أيام مبارك الأخيرة. مثل «إرادة الجماهير الشعبية تفرض علينا حماية مكتسباتها»، ومثل «أقول بكل الصدق إن هؤلاء ليسوا معبرين عن إرادة الجماهير».. إلخ، وإذ تعلو سحابات الملل المصحوبة بخوف الكثيرين من مجرد أن يفتحوا فمهم فقد يكون.. أو قد لا يكون الصمت من ذهب. ولم يعد أمام رئيس الجلسة المتجهم إلا أن يلجأ إلى ممثلى الأحزاب الأخرى من أمثال الجيل والتكافل والأمة والأحرار.. إلخ، وكانت كلماتهم ذات الصوت العالى تقول مثل ما سبق وإن بعبارات مختلفة وأحياناً فيها هجوم على «شباب الميدان» واتهامات لهم.. وكان لا بد للدور أن يأتى نحوى رغم أننى طلبت الكلمة قبل الجميع. ولعل الأستاذ صفوت أراد بخبرته أن يربكنى بعد أن نقل إليه الناقلون عبر ورقة تسللت إليه خلال الجلسة بأننى وزعت على الصحفيين نص كلمة من عشرين صفحة من القطع الصغير.. فقال دون أن ينظر إلى القاعة منادياً اسمى مشفوعاً بوعيد: «الكلمة من الآن ثلاث دقائق فقط»، ووجدت نفسى أقول بصوت مرتفع ولكن هادئ: «تكلمتم وحدكم ثلاثين عاماً.. الآن أتكلم أنا ثلاث دقائق!».. ثم قلت جملتين حملتا كل ما أردت: «من الضرورى أن يقدم الأمين العام للحزب الوطنى نيابة عن الحزب اعتذاراً لجماهير الشعب على كل ما كان فى الماضى، وأن يتقدم ببرنامج جديد يحقق العدل الاجتماعى ويقضى على الفساد ويستجيب لمطالب الميدان». ثم جملة أخرى أن نص الدستور يقول: «يتولى رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية ويمارسها وبهذا يكون الرئيس مسئولاً عما تولاه وعما مارسه عبر السلطة التنفيذية التى.. وعددت عشرات من الخطايا، وعليه أن يتقدم للشعب باعتذار واضح ومحدد»، وهنا أعلن الرئيس أن الثلاث دقائق انتهت، ونادى على متحدث آخر. وحملت أوراقى صامتاً وأنا أعتقد تقريباً أننى لن أعود إلى هذه القاعة.
والمثير للدهشة أن عشرات الأعضاء والصحفيين والعاملين والسعاة قد هنأونى، من بينهم أعضاء تكلموا فى ذات الجلسة نفاقاً. أما اللواء رفعت فلم يقل وإنما وقف وقبلنى.