أعالى النيل.. «أحلام» التنمية تحولت إلى «أوهام»
لم تعرف الأرض نهراً كـ«النيل»، ذلك النهر المتفجر من هضاب وشلالات الجنوب، المهدر عبثاً فى الشمال، شريان الحياة كما سموه، وقبل أن يتفرع فى مصبه إلى رشيد ودمياط، ففرعاه الرئيسيان: الأبيض والأزرق فى منابعه الأفريقية. فى رحلة النيل الأبيض، وتحديداً فى ولاية أعالى النيل، يقع أكبر مقاييس النيل التى شيدها عمال الرى المصرى الذين ذهبوا بصحبة الاحتلال الإنجليزى إلى أرض السودان.[Image_2]
وفى «ملكال»، وهى أكبر قرى ولاية أعالى النيل، تتجدد بعض الاشتباكات بين المتمردين والقوات الحكومية بين الحين والآخر، فتواجه بعثة الرى المصرية مصيرها هناك وسط أجواء محفوفة بالمخاطر، فالمواجهات المسلحة المتجددة تندلع بين ليلة وضحاها، وأحياناً لا يستطيع أى شخص الخروج من إحدى غرف منزله كما يقول المهندس «أحمد عبداللطيف» رئيس بعثة الرى السابق. ويضيف «عبداللطيف» أن العمل فى جنوب السودان خاصة فى الولايات الشمالية يعد خطراً، قائلاً: «أحياناً تهدأ عاصفة المواجهات المسلحة وتبدأ الحياة فى العودة إلى مجراها فى ملكال، إلا أن الأوضاع لا تزال غير مستقرة».
يخرج «صالح»، أحد مهندسى الرى المصريين، كل يومين على متن «لانش» يستقله من مرفأ الرى المصرى الذى لم يعد كما كان قديماً، فوضعه اليوم متهالك، يحتوى على حطام بعض اللانشات القديمة، يقع بالقرب من مرسى القرية المتواضع. فى موسم المطر، حيث كل شىء غير ثابت، فالأرض من فرط خصوبتها طينية مزحلقة، ومنسوب النيل يصل -بفضل ما يصل إليه من مطر- إلى مناطق لم تغمرها المياه من قبل، يساعد «صالح» عمال جنوبيين فى تشغيل محرك «اللانش» استعداداً لرحلة تدوم ساعة فى قلب النيل.[Quote_1]
يتجه القارب إلى مقياس النيل، وهو عبارة عن رخامة منقوش عليها علامات مرقّمة تشير إلى منسوب المياه. يدوّن «صالح» أرقام المنسوب، ويُبلغ بها إدارة الرى التى تقوم بدورها بإبلاغ الإدارة فى الخرطوم ثم القاهرة، يرتفع المنسوب أو ينخفض، كله مكتوب لدى سجلات الرى، فعلى مدار عشرات السنين ضمت دفاتر الرى المصرى بجنوب السودان فيضان وجفاف النهر.
الكل يحترم قارب الرى المصرى فى تلك المدينة، لا يعلمون ما الهدف منه لكنهم يقدرون المصريين، ففى الوقت الذى يعمل فيه مرسى ملكال البدائى، يبحر هذا القارب، يلقى الكثير من التحية، من العاملين وأصحاب البضائع، يسير وسط النهر، لترى من حولك عالماً تزيد خضرته بنزول المطر.[Quote_2]
عبر ساعات من العمل فوق القارب، يشرح لنا «صالح» هذه العلاقة الباهتة كما وصفها بين جنوب السودان ومصر، قائلاً: «مصيرنا مرتبط بهذا البلد، ما نشربه من مياه مرتبط بما نقدمه من خدمات لهذا الشعب، فقد سبقتنا إليه بلدان، منها الصديق ومنها العدو».
يسلك هذا القارب طريقه مرة واحدة فى الأسبوع فى النيل مخترقاً الغابات الكثيفة الغنية بأنواع الطيور والحيوانات على الضفاف وفى قلب المياه، نحو «جونغلى»، فالقناة على الضفة اليمنى من هذا المسير. «جونغلى» حلم ضاع قبل الانفصال أو بعده، فما عادت تلك الحقيقة تهم مسئولين هنا وهناك، كما يقول، مضيفاً: «القناة التى كانت أملاً فى زيادة منسوب مياه النيل الأبيض، لم تعد سوى مجرد آليات ومعدات مهملة على ضفة النهر فى الموقع الذى كانت الشركة الفرنسية تزمع حفرها فيه».
القناة التى كان من المفترض أن تصل بين النيل الأزرق والأبيض، اختفت من خارطة اهتمامات حكومات مصر المتعاقبة، خاصة بعد الانفصال، فأصبح المشروع محظوراً ذكره أو تذكُّره.
يقول أحد المهندسين المصريين الذى رفض ذكر اسمه، إن بعثة الرى المصرية تقوم برحلات قياس النيل فى جونغلى، مشيراً إلى أنه شاهد الآلات الفرنسية الملقاة هناك خلال إحدى تلك الرحلات.[Image_3]
يضيف المهندس المصرى، الذى زار عدداً من الدول الأفريقية آخرها جنوب السودان، إن الأوضاع السياسية غير المستقرة فى الجنوب أضاعت كثيراً من المشروعات المشتركة، فليست جونغلى وحدها هى الضائعة على حد تعبيره، قائلاً: «المتمردون فى ولاية جونغلى يثيرون القلاقل، وتتجدد الاشتباكات بينهم وبين القوات الحكومية». وأشار إلى أن مصر لم تتدخل لحفظ السلام فى السودان، ولم تتدخل سياسياً كذلك لإيقاف انفصال الجنوب ومحاولة رأب الصدع بين الحركة الشعبية ونظام الخرطوم، وتابع: «نظام مبارك مسئول عن ضياع علاقاتنا الأفريقية، والنظام الجديد لا يمثل سوى مزيد من العبء على علاقتنا بدولة جنوب السودان الوليدة». عن ذلك العبء، يضيف: «على مدار عقود من الزمن حاربت الحركة الشعبية لتحرير السودان ضد نظام إسلامى فى الخرطوم بقيادة البشير، وعندما يرى مسئولو هذه الحركة وصول الإسلاميين فى مصر إلى الحكم، لا بد من أن يكون لديهم تخوفاتهم، خاصة فى ظل عدم قيام هذا النظام بإبداء حسن النوايا للدول الأفريقية بشكل عام». سألناه: كيف لم يُبد النظام حسن النوايا وقد زار الرئيس محمد مرسى أثيوبيا وأوغندا قبل شهور، فأجاب: «لا يجب أن تتعامل مصر مع المسئولين الأفارقة على أن الزيارات تكفيهم، فهذا خطأ، ومصر مقصرة فى أدوارها السياسية، ولابد أن يتدارك النظام ذلك فى ظل أزماتها الاقتصادية التى لا تسمح بقيامها بدورها التنموى».
«سد واو» فى ولاية غرب «بحر الغزال» هو الآخر أحد المشروعات المصرية المتوقفة، ولكن هذه المرة بسبب تجدد الهجمات العسكرية التى يشنها الشمال على ولايات حدودية للجنوب، غارات جوية بين الحين والآخر كفيلة بإثارة الأوضاع وتوقف الحياة بشكل عام، فلا يجد المهندسون المصريون أمامهم سوى إخلاء المنطقة.[Quote_3]
المشروع يعد أحد أهم مشروعات المياه فى جنوب السودان، فهو يقوم على عدة محاور منها إقامة مرسى نهرى، وتطهير مجرى النيل، أما الهدف الرئيسى فهو إقامة قنوات ضخمة لتجميع مياه الأمطار وإعادة مسارها إلى النيل بدلاً من إهدارها، فتزيد من منسوب مياه النيل بنحو 15 مليار متر مكعب، إضافة إلى عدم تكوينها للبرك والمستنقعات المسببة لتجميع الحشرات وانتشار أمراض الملاريا وغيرها.
عدم إنهاء التوتر العسكرى بين الدولتين أوقف العمل فى كثير من المشروعات، خاصة فى مدينة «واو» الحدودية، فتوقف المشروع الرامى إلى ربط مياه «النيل الأبيض» بفرع «بحر الغزال»، ما يزيد باستمرار من تكاليف المشروع الأصلية التى تقدر بنحو 11٫7 مليون دولار، بينما يتم تنفيذ المشروع بمعدات تبلغ قيمتها نحو 6٫4 مليون دولار، وهى متوقفة بسبب استمرار إغلاق الحدود بين الدولتين.
أخبار متعلقة:
«الوطن» هناك قبل زيارة «قنديل».. رحلة إلى «مصر الغائبة» فى جنوب السودان
«العوضى»: «حفر الآبار» هو المشروع المصرى الوحيد الذى يتواصل فيه العمل
السفير المصرى: نحتاج ربط «حوض النيل» للحفاظ على مصالحنا
أول شركة مصرية تنفذ طريقاً برياً ومسئول سودانى: نأمل فى دور أكبر لمصر