«فتنة الخصوص»: فتش عن العلاقات العاطفية
على رغم محاولات محوها، ما زالت أسماء «صالح ومصطفى وأحمد وبطة» وإلى جوارها الصليب المعقوف (شعار النازية) على جدران المعهد الأزهري بالخصوص، وفي مواجهتها بناية مطلية بالسواد، بعد إشعال النيران بها.. هنا بدأت الفتنة منذ أيام، حين قام عدد من الصبية بكتابة أسمائهم على جدار المعهد بجانب الصليب المعقوف، فنهرهم إمام المسجد الملحق بالمعهد وطالبهم بإزالتها، ما أثار شجون الجار القبطي نجيب فاروق، وبدأت مشاجرة انتهت بمقتل جاره المسلم محمد محمود، ومنها إلى إشعال الفتنة التي طالت «الخصوص والكاتدرائية».
>>حائط المعهد الأزهري.. شاهد على بداية الفتنة الطائفية
هو تقي الدين محمد، المدرس بالمعهد الأزهري، حاول الحفاظ على خفض صوته، وتحدث إلى «الوطن» قائلًا: صبية مسلمون كتبوا أسماءهم وألقابهم على الحائط ورسموا الصليب المعقوف، وجاء إمام المسجد الملحق بالمعهد وفهّمهم خطأهم وأنه لا يجوز رسم الصليب على حائط المعهد لقدسيته، كما أن للمسجد قدسيته، فحاولوا مسحها، فطردهم نجيب القبطي الساكن بالعمارة المقابلة، بسبب الصوت الذي أحدثوه، أو لأنه شعر بالإساءة لمسح الصليب.[FirstImage]
يتذكر المدرس بامتعاض، الشاب المسلم محمد الذي تدخل لمنع طرد الصبية من جانب نجيب، حتى حدثت مشادة كلامية بينهما، وتراشقا بالألفاظ، فـأطلق نجيب الرصاص على محمد فأصابه في رأسه من الخلف، ونقل بعدها إلى المستشفى حيث لقي ربه، ويقول تقي الدين: « مدير الأمن رفض القبض على من أطلق النار، وهو ما أثار الأهالي، فأشعلوا النار في العمارة واتجهوا إلى منزل ابن عمه إسكندر، الذي أطلق النار بدوره على المتجمهرين تحت المنزل"، مؤكدًا أن أهالي المنطقة كانوا يرغبون فقط في تسليمه إلى الشرطة، التي تجاهلت القبض عليه.
على بعد خطوات من المدرس الملتحى، يتحدث حسن سيد شيخ المعهد، بوجهه المتجهم وملامحه الغليظة، رافضًا ما أشيع عن رسم صلبان على جدران المعهد الأزهري، قائلًا: "ما عاش اللي يقدر يمد إيده على المعهد الأزهري، والأزهر يحميه رجالته".
وكشف الشيخ حسن عن وجود خلاف قديم بين العائلتين، حيث قام أحد الشباب بمعاكسة فتاة مسيحية، ولكن من سماهم بـ"أعضاء الفتنة"، أشعلوا الموضوع من جديد، مؤكدًا أنه خلاف عادي، ولكن العائلة المسيحية ثارت واستخدمت الأسلحة الآلية وأطلقت العديد من الطلقات هنا وهناك حتى أصابت الفقيد محمد محمود، ومن هنا اشتعلت الفتنة.
الشيخ حسن بحدته المعهودة خلال حديثه المقتضب، ومن أمام المعهد الأزهري الذي نشبت شرارة الفتنة من على جدرانه، كشف أن هناك مسجلين جنائيين دخلوا الخصوص، وأشعلوا الفتنة وأطلقوا النار على الجانبين، ليزيدوا من تأجج الموقف، مؤكدًا أنها المرة الأولى التي تشتعل فيها الفتنة الطائفية في «الخصوص»، موضحًا أن أي مشكلة في «الخصوص» تنتهي من خلال الجلسات العرفية ولا يتدخل أحد من الخارج فيها، حتى الأمن نفسه.
>> كنيسة مار جرجس
على بعد أمتار من المعهد الأزهري، ومن داخل كنيسة مار جرجس، يرفع الأقباط أيديهم إلى السماء والصليب يرسم على الصدور والعيون متعلقة بصور العذراء، متذكرين من كانوا ليلة الجمعة مضرجين في دمائهم أمام الكنيسة غير قادرين على القيام بصلواتهم على ذويهم، نظرًا إلى تأجج الوضع.[SecondImage]
حين يحل القمص سريال يونان، راعي الكنيسة بجلبابه الأسود البابوي ولحيته الكثة مقطب الجبين والصليب يتوسط صدره يحمله في فخر، يهرول إليه كل من يلحظه حين يقترب، لينحني ويقبل يديه، وبعينين زائغتين على القاصي والداني يقف أمام الكنيسة يطالب الأقباط المتجمهرين بالرحيل في سلام، لإتاحة المساحة للشرطة لحل الأزمة، وحينها ينصرف الجميع دون نقاش أو جدال.[FirstQuote]
داخل مكتب بالطابق الأول بالكنيسة الذي لم يخل من صورة الآباء الكبار، وإلى جواره شاشات عرض كاميرات المراقبة ليتابع الوضع عن كثب، يجلس القمص يونان، ويقول لـ«الوطن»: «منطقة الخصوص إحدى المناطق الملتهبة طائفيًا، لأنها مليانة مسيحيين ومسلمين جاؤوا من بلدان عدة، محملين ومشحونين بمشكلات طائفية أخرى في بلدانهم، منها أسيوط والمنيا والزاوية الحمراء»، مؤكدًا أن المشكلة التي حدثت ليس لها أي بعد طائفي، وأنها مشكلات تحدث بشكل يومي في المناطق العشوائية، مشيرًا إلى وجود خطة لدفع الأحداث إلى الطائفية والدخول في الأزمة.
تتحرك كل قسمات وجه القمص حين يروى الواقعة التي أبعدها كل البعد عن الصراع الديني، مؤكدًا أنها مجرد مشادات بين مسلم متشدد ومسيحي، على خلفية مشاحنة قديمة، ومع تطور المشكلة سقط المسلم قتيلاً، ومشيرًا إلى أن الوضع هنا يقع تحت طائلة القانون، ليحاسب ذلك المواطن القبطي الذي قتل مواطنًا مسلمًا، لافتًا إلى أن هناك اتجاهًا لإعادة صياغة المشكلة لتصل إلى ذلك الوضع المتأجج والمشتعل.
وترتسم على وجهه ملامح الانفعال، قائلًا: «مسلم موّت مسيحي، أو مسيحي موّت مسلم، القانون لا بد أن يأخذ مجراه أو الجلسات العرفية»، ويتساءل.. ولا الإسلاميين هما اللى يخدوا حقه؟.. ولا القصاص في إيد مين دلوقتي؟".
وكشف القمص عن تدخل جهات أخرى (رفض التصريح عنها) في الأحداث التي اندلعت عند الكنيسة بالخصوص، والتي نتج عنها سقوط عدة أقباط ومسلم، مؤكدًا أن ملثمين بأسلحة متطورة وعددًا من القناصة اعتلوا الأسطح، واغتالوا الأقباط الأربعة أمام الكنيسة، وجاء التقرير الطبي المبدئي لحالاتهم: «مرقص كمال كامل، 25 سنة، طلق ناري بالقلب، وفيكتور سعد منقريوس، 35 سنة، طلق ناري بالرأس دخول وخروج، ومرزوق عطية سليم، 45 سنة، طلق ناري بالوجه، وعصام قدري، 27 سنة، طلق ناري بالقلب".
القمص يوضح أنه تم شحن وحشد الإسلاميين، إلى جوار المسلحين، مطالبًا بتدارك الأمر، لأن هناك شيئًا يحاك في الظلام، مشيرًا إلى الملثمين المسلحين الذين جاؤوا في ثلاث سيارات، واستخدموا الأسلحة المتطورة في اغتيال الأقباط أمام الكنيسة، يساعدهم العديد من الإسلاميين التابعين والمتشددين من خلال ضرب المولوتوف والخرطوش، وحرق الكنيسة المعمودية وحضانة "الرحمة"، علاوة على السيارات الموجودة على جانبي الطريق، والشوارع والمحلات، قائلًا: «ليه كل ده عشان خناقة غير طائفية".
يونان قال: «30 سنة ولدينا فرد أمن من الداخلية بالكنيسة، ولا عمرنا شفنا جامع بيحرسه غفير، وده أكبر دليل على عدم قدرة أو رغبة المسيحيين في الاعتداء على المساجد، احترامًا وتقديسًا لمقدسات الغير"، مؤكدًا أنه لا يجب إتيان مثل ذلك الفعل، مشيرًا إلى اشتعال الأمور مرة أخرى بعد أن هدأت، وكان المسيحيون ينظفون المنطقة المحيطة بالكنيسة، مشيرًا إلى تجدد الاشتباكات بعد أحداث الكاتدرائية، لافتًا إلى وجود دعم مادي كبير للمشاركين في الأحداث، مستشهدًا بحجم طلقات الرصاص التي أطلقت على الكنيسة، والتي تقدر بأكثر من 2000 طلقة، والتي لا يستطيع أهل الخصوص الفقراء تحمل نفقاتها، مؤكدًا معرفته بشخصيات معينة ممولة للفتنة، رفض الإعلان عنها الآن.
وانتقد القمص محاولة اقتحام المسلمين منزل الأب يعقوب، مؤكدًا أن الشعب المسيحي ما زال يمارس ضبط النفس، وموت أحد الآباء يخرجه عن شعوره، وهو ما يريدونه حتى يثبتوا أن الأقباط من بدأوا بالاعتداء، مشيرًا إلى قيام أحد الملتحين بإطلاق النار على الكنيسة، أمس الأول، سبع ساعات متواصلة.
ونفى القمص استخدام الكنيسة أي سلاح، خلال الاشتباكات للدفاع عن نفسها، مشيرًا إلى وجود درع بشرية من شباب الكنيسة حولها، بجانب درع عند العمارات المجاورة التي يقطنها بالكامل أقباط.
الأقباط.. آثار الفتنة وملامحها
ارتعاش اليدين لم يمنع أمين هاجر، الشاب القبطي الذي لم يكمل عقده الثاني، من القول: «في السابعة من مساء ليلة الجمعة ظهر عدد كبير من المسلمين وضربوا علينا نار من آخر الشارع، وقطعت الحكومة النور، وبدأوا في ضرب النار في الظلام»، مشيرًا إلى خوف الشرطة وتراجعها لتسمح للمسلمين، على حد تعبيره، بالعودة وضرب الطلقات النارية المتلاحقة، قائلاً: «لحقت المصفحة، بقوات الشرطة بعد مطالبتنا بإخلاء المكان، وهو ما سمح لهم بفرصة أخرى لحرق بيوت الأقباط التي تجاورهم، وإطلاق الرصاص الحي من شرفات المنازل المجاورة.[SecondQuote]
ويطالب أمين بعودة الجيش للشارع، لحمايتهم بعد فشل الإخوان، حسب تعبيره، متهمًا جيرانه المسلمين بإطلاق النار الذي كان من شرفات عمارات المسلمين.
وعلى مقربة من هاجر، يقف أبو روماني يحاول جمع ما تبقى له من أثاث منزله الذي طالته النار حتى تفحم، قائلًا: «الخسائر ديه مين يتحملها، وكمان محبوسين في بيوتنا مش عارفين ننزل نجيب أكل، وعيالنا كانت هاتتحرق قدام عنينا، إيه ذنب الناس الغلابة".
فيما تقدم «بشاوي» بجلبابه الصعيدي وعمامته البيضاء، مؤكدًا أن من ينفذون تلك الأعمال "لا هما مسلمين ولا هما مسيحيين، ولا فرق بين منزل المسيحي ولا المسلم حين اشتعلت الحرائق بالمنازل"، لافتًا إلى رجل غلبته دموعه فانهمر بالبكاء، وهو صاحب المقهى الذي حرق بالكامل، مؤكدًا أنه مسلم ويبقى وسط المسيحيين ولا يفصل بينهم على رغم ما يحدث إلا خطوات، مشددًا أن الفتنة لا تفرق بين مسيحي ومسلم، قائلًا: «البيوت قدام بعضها والنار كانت قايدة فيها كلها".
شحاتة يوسف من أمام منزله، بوجه شاحب يقول: «الحكومة ليس لها أي دور في الخصوص، الضباط بييجوا يشربوا نسكافيه، ويمشوا 8 ساعات فيقضوهم ويمشوا زي ما راحوا زي ما جم، وهما عارفين كويس المسؤولين عن الأحداث»، مطالبًا بنزول الجيش، ويعبر بتجهم وجهه عن حجم الشحن في منطقة عزبة النخل والخصوص، ومدى خطورته ومدى التأجج الطائفي هناك، متوقعًا تطور الأمور والوصول إلى حرب أهلية بالمنطقة.
مسجد صلاح الدين.. قبلة السلفيين بـ«الخصوص"
مصحف محترق، وملابس وأقمشة ممزقة متناثرة هنا وهناك، ومقاعد منكسة ومنتشرة بشكل فوضوي في أرجاء المكان، كان ذلك حال مسجد "صلاح الدين" بـ«الخصوص»، والذي داهمته الشرطة فجر الأحداث، وقبضت على عدد من المصلين، حسب رواية إمام المسجد.
وعلى جدران البيوت تناثرت الشعارات الانتقامية والثأرية لدماء الطالب المسلم محمد محمود، الذي أشعل سقوطه على أيدى الأقباط نار الفتنة، «دم بدم، رصاص برصاص»، «مش هنسيب حق محمد»، «مش هاننساك وحق محمد مش هيروح هدر»، «في قلوبنا كلنا يا محمد".[ThirdImage]
فيما لم تكف «أم أشرف» عن الدعاء، والبكاء على نجلها المقبوض عليه بالأحداث، فليس لديها من الأبناء سواه، وتقول: «عمرنا ما حسينا بالفرق بين المسيحي والمسلم، وكنا داخلين خارجين على بعض»، مؤكدة أن نجلها كان في البلد، واتهام الأقباط له ظلم بيّن، ولم يكن يعرف شيئًا عن الأحداث، نافية امتلاك المسلمين سلاحًا استخدموه ضد الأقباط، قائلة: «الأقباط موتوا نفسهم، طفوا النور وضربوا ضرب عشوائي وقتلوا بعض، وقعوا عدد منهم من على الأسوار، والمسلمين لم يصلوا للكنيسة، ليعتدوا عليهم".
فيما خرج من المسجد على رأس المصلين، أحمد إبراهيم الطوخي عضو جمعية «أنصار السنة» بالخصوص، وهو ذو لحية كثة، يترجل ليطمئن على المنطقة في ظل الوضع المتأجج، وبدأ في اقتفاء أثر الفتنة منذ بدايتها، وقال: «بداية أي حادث بين المسلمين والمسيحيين، يبقى بدايته تسرع من الأقباط في إطلاق الرصاص»، مؤكدًا أن الطالب محمد محمود الذي سقط قتيلاً في بداية الأزمة أصيب في رأسه من الخلف، في أثناء هربه بعد رفع نجيب جاره القبطي السلاح الناري عليه، قائلًا: «بداية الفتنة لما طلع السلاح واللي طلع السلاح عارف كويس إنه مش هيتحاكم ولا يتحاسب".
يشير «الطوخي» إلى صورة البابا شنودة التي تتوسط مدخل الشارع، قائلاً: «نحن نعيش في سلام مع المسيحيين منذ فترة ولم نعتد عليهم، والدليل صورهم المعلقة في كل مكان ولم نمسها بسوء»، وهاجم الأمن محملاً إياه جزءًا من مسؤولية الأحداث، لأنه كان من المفترض يغلق المنطقة حتى لا يأتي أحد من الخارج، ولكنه ترك الساحة للخارجين والمسجلين وعدد كبير من المسلحين أطلقوا النار على الجانبين.[ThirdQuote]
يؤكد الطوخي بكل ثبات الموافقة على الجلوس مع الأقباط للوصول إلى حل وسط يرضي جميع الأطراف ويحقن الدماء، مطالبًا الشرطة بعدم الكيل بمكيالين، وكما اقتحمت المسجد وفتشته عليها دخول الكنيسة وتفتيشها.
ويقطب جبينه قائلًا: «الشرطة ضربت المسجد بالخرطوش وقنابل الغاز، ولدينا بالداخل مصاحف محترقة، حرقها النصارى أمام الكنيسة، ودنس الجنود المسجد بأحذيتهم، وتطاولوا على المصلين بالسباب والضرب وسب الدين، وتم القبض على عدد من الشباب»، وتحدى الطوخي أن تقدر تلك القوات على إتيان تلك الأفعال المشينة مع الكنيسة كما فعلوها في المسجد، من كسر بابه بأقدامهم واقتحامه.