بروفايل: «مبارك».. المخلوع يبتسم
ظل طوال ثلاثين عاماً يتأنق فى بذلته اللامعة، ناظراً لشعبه من عل، مخاطباً إياهم «أنا ربكم الأعلى»، لم يقوَ أحد على مجابهته، أو إسقاط عنفوان دولته التى انهارت فى ثمانية عشر يوماً، بعد أن استشرى الفساد، ووصل الشعب لحد الاختناق، ليسطر جموع الشعب فى الميادين تاريخاً جديداً فى حياة المصريين الحديثة. سقط محمد حسنى مبارك، وقع من ظن الشعب ألا رئيس غيره، لم يكَد يمر على تنحيه عدة أشهر، حتى تغير لون بذلته اللامعة، ليرفل فى بذلة زرقاء كالحة، حيث دخل السجن متهماً فى قضية قتل المتظاهرين، سميت محاكمته بـ«محاكمة القرن»، واستمرت لشهور حتى حُكم عليه بالمؤبد فى الثانى من يونيو عام 2012، وتقررت إعادة محاكمته بالأمس، حيث بدا فى أبهى صورة، كعريس يستعد للقاء زوجته ليلة الزفاف، الشعر مصفف بعناية، العين رائقة لا زيغ فيها ولا قلق، والنظارة الشمسية تكمل صورة الرقى، يضع يده على خده، يتطلع إلى القاضى ومن حوله علاء وجمال لا يغيب عن محياهما الابتسام، الراحة العنوان الذى خيم عليهما، عامان مرا على رحيلهم من سدة الحكم، هتف الشعب برحيلهم، وقررت المحكمة حبسهم، لكن ما حدث على أرض الوطن دفعهم إلى الضحك ملء أفواههم، والتلويح باليدين لا لإثبات الحضور، بل للتحية، تحية المستريح الواثق الهادئ الشامت فى شعب ذاق الأمَرّين بعد رحيله.
ساعة ثارت عليه الجموع، دار فى مخيلتهم أن النظام يسقط بتنحى رأسه، لفت كؤوس الفرحة على الشعب المصرى، اندلعت الاحتفالات، لكن مصر دخلت عقب رحيل «مبارك» فى أنفاق لم يتسرب إليها شعاع من النور. أصبح الشارع يردد كلمات كـ«ولا يوم من أيام مبارك» بعد أن كان التلفظ بمثلها جريمة فى الأيام الأولى للثورة. التهمة التى دخلت بـ«مبارك» لجب الزنزانة كانت قتل المتظاهرين، القصاص أولاً مطلب الشباب الثائر، جاء المجلس العسكرى عقب «مبارك» فلم تتوقف الاحتجاجات، إذ لم تحقق المطالب، لكن الدماء أيضاً لم تتوقف، تناثرت فى شوارع محمد محمود ومجلس الوزراء وماسبيرو، تنحى المجلس العسكرى، وجاءت أول انتخابات حرة فى التاريخ المصرى الحديث، ليأتى محمد مرسى رئيساً، محملاً بمشروع النهضة، الذى تحدث عن كونه إرادة الشعب، لكن المطلب الجماهيرى الأول القصاص ومطالب أخرى لم تتحقق، استمرت عمليات سحل المتظاهرين الغاضبين، وزهقت أرواح المزيد من المصريين فى بورسعيد والإسكندرية والاتحادية والمقطم والكاتدرائية، الدم واحد، والرؤساء مختلفون. يقول الشاعر أحمد مطر: «وُجد الحُكاّم فى الدنيا/ لكى ينفوا وجود المستحيل/ ما عداهم/ كل ما فى هذه الدنيا جميل». قضى بالأمس المستشار مصطفى حسن عبدالله بتنحى هيئة المحكمة عن النطق بالحكم، لاستشعاره الحرج، لا يعرف قاضى براءات «موقعة الجمل» أن الشعب المصرى كله كان مستشعراً للحرج، من ثورة بدأت ولم تكتمل.