«طوبى للحزانى فإنهم يسعدون»
أهل الشهيدة يتلقون العزاء
تشابهت وجوههم، بعد أن خطت عليها الدموع الساخنة أخدوداً أسود، بفعل الصدمة الشديدة التى أصابتهم بعد حادث تفجير الكنيسة البطرسية، أهالى شهداء الحادث الأليم مرت عليهم الساعات طويلة جداً قبل دفن ذويهم بالمقطم، وإقامة جنازة شعبية وعسكرية لهم بحضور الرئيس عبدالفتاح السيسى، فى قاعات المناسبات وقفوا لاستقبال المعزين المسيحيين والمسلمين، وقد أصابهم الإعياء الشديد، بسبب الإرهاق والحزن، ورغم كشف ملابسات التفجير ومعرفة المنفذين إلا أن نار أهالى الشهداء لم تبرد حتى الآن رغم ثنائهم على سرعة تحرك أجهزة الدولة لكشف المنفذين وتكريم الشهداء بإقامة جنازة عسكرية لهم.
وعاشت منطقة الظاهر بوسط القاهرة ليلة حزينة بعد أن انتشرت سرادقات العزاء فى معظم أرجائها، فمعظم الشهداء الذين كانوا يرتادون الكنيسة البطرسية كانوا يسكنون فيها. واستمعت «الوطن» إلى قصص الشهداء التى لم تخلُ من المفاجأة والمفارقة.
«الوطن» حضرت عزاء شهداء «البطرسية» واستمعت إلى أنين أهاليهم
مثل كل يوم أحد اتفق بولا كرم زكى، صاحب الـ23 عاماً، مع خطيبته إنصاف عادل، على الذهاب معاً إلى الصلاة فى الكنيسة وحضور قداس الأحد، حضر الشاب إلى بيت خطيبته صباح يوم الأحد الماضى، بشارع طور سيناء، بمنطقة الظاهر، وسط القاهرة، وانتظرها عدة دقائق حتى تنتهى من تجهيز نفسها وارتداء ملابسها، وبسرعة فائقة انتهت إنصاف، التى تنتمى إلى أسرة بسيطة، ولها شقيقتان، الأولى عمرها 24 سنة والثانية 8 سنوات، من ارتداء ملابسها الأنيقة، وودعت والدها ووالدتها، وخرجت مع خطيبها عقب التاسعة صباحاً، وتوجها إلى كنيسة العذراء الشرقية، بالسكة البيضاء، لكنهما اضطرا إلى تغيير وجهتهما إلى كنيسة أخرى بسبب اقتراب قداس الكنيسة من الانتهاء.
«كانت بتقول لى إن حلمها الوحيد إننا نتجوز ونعيش مع بعض فى بيت واحد»
فضّل «بولا» وخطيبته صاحبة الـ18 ربيعاً، والطالبة بالمدرسة الثانوية الصناعية، الذهاب إلى الكنيسة البطرسية بجوار الكاتدرائية بالعباسية: «أنا وإنصاف كنا بنحب نروح الكنيسة دى بالتحديد، ودخلنا والقداس شغال، بدون أى تفتيش، رجال الأمن ناس غلابة، كانوا قاعدين فى الكمين الثابت والبوكس، كانوا مفكرين إن اليوم هيعدى زى كل يوم، ومش عارفين إن فيه خيانة هتحصل، أو إن حد غير المسيحيين ممكن يدخل جوه الكنيسة، لكن لما دخلنا الكنيسة البطرسية، قعدت فى صف الرجال، وهى قعدت فى صف السيدات».
مرت ربع ساعة فقط على وصول الشاب وخطيبته للكنيسة، وانخرط الاثنان فى تأدية الصلاة والتعبد إلى الله، قبل أن يتحول سكونهما مع بقية المصلين إلى جحيم: «فى لحظة واحدة تحول النور إلى ظلام، والهدوء إلى ضجيج، والدعاء إلى صراخ، لم أفهم طبيعة ما حدث، أُصبت بالذعر والخوف والصدمة، خوفى لم يكن على نفسى، لأنى كنت حياً ومتماسكاً، بل كنت خائفاً على إنصاف».
خطيب «إنصاف»: كنا سنصلى فى كنيسة أخرى وغيّرنا وجهتنا إلى «البطرسية» للحاق بميعاد القداس.. وفى لحظة واحدة تحولت الصلاة إلى جحيم
يصمت الشاب العشرينى عن الكلام قليلاً، وينظر فى الفراغ، قبل أن يتحدث بنبرة منخفضة مملوءة بالحزن: «أنا كان كل همى خطيبتى، أول ما حصل الانفجار بصيت على صف الحريم، ما شفتش أى حاجة، الدنيا كانت مليانة تراب ودخان، جثث السيدات كلها كانت مرمية على الأرض، وغرقانين فى دمهم، جريت على المكان اللى كانت إنصاف قاعدة فيه، ما لقتهاش، هى كانت قاعدة تقريباً فى نص صف الحريم الأمامى».
تذرف عينا «بولا» الدموع وتتغير نبرة صوته قبل أن يقول «وانا رايح لإنصاف لقيت فيه ستات بتشدنى وبتصرخ، وبتقول طلع بنتى من تحت الدكة، أنا مش عارفة أقوم، وواحدة تانية بتقول طلّعنى من هنا، أنا بموت ومش شايفة بعينى، وواحدة تالتة ميتة، وهى قاعدة على البنش أكنّها صاحية بالظبط، طبعاً ماكانش ينفع أعدّى من فوق الستات من غير ما أساعدهم، على الأقل دول كلهم أهالينا وبنصلى مع بعض، وأى حد فى مكانى كان لازم يعمل كده، ووصلت لإنصاف بعد ربع ساعة من الانفجار لأنى أخدت وقت طويل فى البحث عنها لأن عدد الجثث والمصابين كان كتير جداً».
يضيف بولا قائلاً: «جبتها من تحت الدكة كانت نايمة على وشها، عرفتها الأول من هدومها، وأول ما شفتها لقيتها ما بتتحركش تماماً، لكن نبضات قلبها كانت شغالة، كل اللى عملته بعد كده إنها فتحت عينيها عشان تطمّنى، لكن من غير ما تتكلم ولا تتحرك ولا حتى تهمس، كانت صامتة تماماً، شلتها من مكانها وجريت بها على بره الكنيسة وعديت الشارع وأخدت تاكسى أنا وواحد تانى كان معاه ست مصابة بإصابات خطيرة، هما قعدوا ورا واحنا قعدنا قدام، وصلنا قسم الطوارئ بمستشفى الدمرداش بعد 5 دقائق، وبدأوا فى إجراء الإنقاذ والإسعافات الأولية لإنصاف».
بولا كرم: «وصلت لمكان خطيبتى بعد الانفجار بربع ساعة لأن الستات كانت بتصرخ.. وواحدة شدتنى وقالت لى أنقذ بنتى وأخرى قالت خرجنى من هنا أنا مش شايفة بعينى»
يتابع خطيب «إنصاف» حديثه بنبرة حزينة: «الدكاترة فى قسم الاستقبال بالدمرداش بصراحة ما قصّروش معانا وعملوا كل اللى قدروا عليه، كلهم كانوا بيحاولوا يساعدونا، وكان فيه أكتر من طبيب بيعالجوا إنصاف، وطبعاً ما سبتهاش فى أى لحظة بعد وصول المستشفى، كنت بتابع ضربات القلب وشاشة المونيتور اللى بتنقل حركات الجسم الحيوية لحد ما الشاشة صفرت، حاولوا يفوقوها بالصدمات الكهربائية لكنها خلاص كانت ماتت».
التأكد من وفاة «إنصاف» كان مجرد مسألة وقت بالنسبة لـ«بولا» لأنه لم يتحرك لها ساكن منذ وقوع الانفجار، رغم عدم إصابتها بجروح قطعية أو بتهتكات شديدة، لكن بعض الشظايا الحديدية الصغيرة استقرت فى جسدها وتسببت فى حدوث نزيف داخلى أودى بحياتها: «أنا مش زعلان إنها استشهدت، اللى مأثّر فيا بس الفراق، لكن أنا عارف هى فين، هى فى الجنة ونعيمها وعقبالنا زيها، أحلام إنصاف كانت بسيطة جداً، كانت بتقول لى أنا كل حلمى اننا نتجوز ونبقى فى بيت واحد وأبقى معاك ومش أسيبك أبداً، عشان أنا بحبك وماليش فى الدنيا غيرك يا بولا».