الوطن: «الإسلاميون» يعتبرونه حفنة تراب بلا قيمة.. وحبه انفعال «سخيف».. و«الشرع» يراه بقاعاً عريقة يجب الحفاظ عليها
مفهوم الوطن مشوه فى عقلية التيارات المتطرفة
يبحث «الأزهرى» فى الفصل السابع من كتابه مفهوم الوطن، ويعقد مقارنة بين الصورة المشوهة له فى عقلية التيارات الإسلامية وبين الصورة الصحيحة للوطن فى الفكر الإسلامى وعقلية الأزهر الشريف، وحول صورة الوطن فى ذهن التيارات الإسلامية قال: «قامت التيارات والجماعات الإسلامية فى الثمانين عاماً الماضية بصناعة فكر سقيم، تحاول فيه أن تستخرج وتصنع تصوراً عن عدد من المسائل والقضايا الكبيرة، رغم افتقاد تلك التيارات الأدوات الصحيحة فى فهم الشرع، بالإضافة إلى جو نفسى متأزم ومختنق ومتوتر، سيطرت عليه أزمات انهيار الخلافة الإسلامية، واحتلال فلسطين، والضغوط النفسية للسجون، فتولد عندهم فقه فى غاية التشوه، جعل الصورة المستقرة فى أذهانهم لعدد من القضايا والمسائل صورة منحرفة، ومختزلة، ومبتورة».
ويضيف «الأزهرى»: ومن تلك القضايا الحساسة والخطيرة، التى صنعوا فيها صورة معكوسة ومشوهة، قضية الوطن، تتركب من عدد من الأمور هى أن الوطن حفنة تراب لا قيمة لها، وأن حب الوطن انفعال بشرى سخيف، لا بد من مقاومته والبراءة منه، وأن رفض فكرة الوطن لأنها فى نظرهم مقابل الخلافة أو الأمة، الأوطان حدود جغرافية صنعها الاستعمار فلا نحبها ولا نتعامل معها، وأن الأوطان هى المساكن التى ترضونها، والتى ذمها الله، وأنه ليس فى الشرع آية ولا حديث تدل على حب الوطن، وأن الحديث المتعلق بحب النبى لمكة فيه خصوصية لمكة وحدها، فلا نقيس بقية الأوطان عليها ، وناقش «الأزهرى» كل فكرة من تصور التيارات الدينية لمفهوم الوطن، ناقلاً كلام العلماء الكبار، من المفسرين، والمحدثين، والفقهاء، والأولياء، والأدباء، التى نرى فيها مقدار رعاية الشرع الشريف لفكرة الوطن، وكيف أن الشرع غرس فى نفس الإنسان حب وطنه، وزكى فيه دوافعه الفطرية النبيلة فى الانتماء للأوطان وحبها والدفاع عنها.
التيارات المتطرفة افتقدت الأدوات الصحيحة فى فهم الشرع وتعرضت لتأزم نفسى وسيطرت عليها أزمات انهيار «الخلافة» واحتلال فلسطين
وحول حديث سيد قطب فى «الظلال» عن كون الوطن حفنة تراب لا قيمة لها، قال «الأزهرى»: هذا تحوير اختزالى للوطن، فالوطن شعب، وحضارة، ومؤسسات، وتارخ، وانتصارات، وقضايا، ومكانة إقليمية ودولية، وتأثير سياسى وفكرى فى محيطنا العربى والإسلامى، ورجال عباقرة صنعوا تاريخه فى مجال العلم الشرعى، وتاريخ حافل بالنضال لحماية هذا الوطن، وفى التاريخ الاقتصادى، والعسكرى، والدبلوماسى، والأدبى، والفنى، وغير ذلك من المجالات التى نبغ فيها العباقرة، وتجاهل كل هذه المكونات التى تصيغ مفهوم الوطن، واختزالها فى حفنة تراب، يمثل عقوقاً وطنياً، وفهماً مجتزأ ومشوهاً، وتحقيراً لأمر عظيم.
وحول وصف حب الوطن بالانفعال البشرى السخيف، قال الأزهرى: «هذا فهم سقيم، وخلط غريب بين المشاعر الخبيثة الآثمة، التى أمرنا الله تعالى أن نتنزه ونتسامى عليها، وبين المشاعر النبيلة، والدوافع الفطرية الراسخة، التى اكتفى الله تعالى بها، واعتمد الشرع على شدة ثباتها فى النفس الإنسانية، وأنه بسبب استقرارها وثباتها فى النفس فإن الشرع لا يحتاج إلى تقنين تشريع لها، لأن دوافع الطباع تكفى لتوجيه الإنسان فيها إلى المسار الصحيح، ومن هذه الدوافع النبيلة الانتماء والوفاء للوطن.
ومن هذه الأمور التى ينتجها الطبع السليم حب الوطن والانتماء إليه والوفاء لها، وقد روى الدينورى فى كتاب (المجالسة) من طريق الأصمعى، قال: سمعت أعرابياً يقول: (إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحننه إلى أوطانه)، وحول جعل الأوطان فى مقابل الخلافة أو الأمة، قال الأزهرى: «أكد الشرع الشريف الانتماء للأوطان وانطلق منه، وعول عليه، ولم يتجاهله، فالشرع الشريف لم ير بأساً بوجود انتماءات جزئية فى إطار ذلك الانتماء الكلى، فسمح بمحبة البقعة المحددة التى ولد فيها الإنسان وعاش، وهى موطنه المباشر، ولا يتعارض ذلك مع محبة الأمة بأكملها، وإن غلب عليه حبه وانقلب تعصباً، يعادى من أجله المسلم الناس فإن الشرع يرفضه، ومن هنا جاءت محبة الأوطان والديار، وكان النبى يحب مكة ويشتاق إليها مع أن المدينة مقره ومثواه، فالانتماء دوائر، بعضها أوسع من بعض، والأكبر منها لا ينفى الأصغر، والصغير منها لا يبطل الكبير. وحول وصف أبناء التيارات الدينية الأوطان بالحدود الجغرافية التى صنعها الاستعمار، قال الأزهرى: «الأوطان بقاع عريقة، قبل الاستعمار بألوف السنين، واستقرار الوضع الحالى على تلك الحدود يوجب علينا حفظها والدفاع عنها، ورفع تلك الحدود لا يكون بالتلاعب، بل بالاتفاقات العليا التى يتم إبرامها وفق آليات محترمة كما صنع الاتحاد الأوروبى مثلاً، وما لم يتم ذلك فلا بد من احترام الوضع القائم والحفاظ عليه وعدم تضييعه ولا انتقاصه ولا التفريط فيه، فهذا خلط شديد فى المفاهيم، يختزل صورة الوطن فى الذهن، ويؤدى إلى صناعة صورة مزيفة، يتم فيها إهدار قيمة الوطن وتاريخه وإنجازاته ودوره، ويتم فيها التلاعب بمشاعر الإنسان، حيث يلتبس فى ذهنه مفهوم الوطن، ويتم إلصاق فكرة الاستعمار وآثاره السيئة بفكرة الوطن، بحيث كلما خطرت فكرة الوطن فى الذهن انتقل الذهن منها إلى بشاعة الاستعمار وكراهيته، فيتصور أن كراهية الاستعمار تقتضى منه البراءة من الوطن، تحت دعوى أن الوطن صنيعة الاستعمار. وأوضح «الأزهرى» الصورة الصحيحة للوطن فى الفكر الإسلامى وعقلية الأزهر الشريف، وسرد الأدلة على حب الوطن من القرآن الكريم وكلام المفسرين، ناقلاً عن الإمام الفخر الرازى تفسيره لقوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم» قال الرازى: (جعل الله مفارقة الأوطان معادلة لقتل النفس)، فكأن الله تعالى يقول: ولو أنى كتبت عليهم أعظم مشقتين فى الوجود لم يمتثلوا، وأعظم مشقتين هما قتل النفس، وفراق الوطن.
الوطن شعب وحضارة ومؤسسات وتاريخ وانتصارات وقضايا ومكانة إقليمية ودولية وتأثير سياسى وفكرى وعباقرة فى العلم الشرعى ونضال
وعرض «الأزهرى» أدلة حب الوطن فى الحديث النبوى الشريف، وكلام شراح الحديث، فروى البخارى وابن حبان والترمذى من حديث أنس «أن النبى كان إذا قدم من سفر فنظر إلى جدرات المدينة أوضع راحلته، وإن كان على دابة حركها من حبها»، يقول الحافظ ابن حجر فى تفسير الحديث: (وفى الحديث دلالة على مشروعية حب الوطن، والحنين إليه)، وروى عن النبى قوله (ثلاثة تستجاب دعوتهم: الوالد لولده، والمسافر، والمظلوم على ظالمه)، فعلل الشراح سبب استجابة دعاء المسافر هو ما يعانيه من فاقة واضطرار وحزن لمفارقة وطنه وأهله، وقال بعض الحكماء: «الحنين إلى الوطن من رقة القلب، ورقة القلب من الرعاية، والرعاية من الرحمة، والرحمة من كرم الفطرة، وكرم الفطرة من طهارة الرشد»، وفى حب الوطن عند الفقهاء نقل الأزهرى أن «تعليل حكمة الحج وعظمة ثوابه أنه يهذب النفس بفراق الوطن»، وعن حب الوطن عند الأولياء والصالحين، روى أبونعيم فى «حلية الأولياء» عن إبراهيم بن أدهم قال: (ما قاسيت فيما تركت شيئاً أشد علىَّ من مفارقة الأوطان)، وأورد كتباً ومؤلفات كاملة أُلفت فى حب الوطن، فألف الجاحظ كتابه: حب الوطن وألف القاضى الحلى كتاباً فى الحنين إلى الأوطان، وأبى حاتم السجستانى ألف فى الشوق إلى الأوطان، ولأبى حيان التوحيدى كتاب: (الحنين إلى الأوطان).