«الانتفاضة» فى صحافة السبعينات: مؤامرة شيوعية والمتظاهرون «حرامية».. وإرهابيون وثبوا على موجة التعبير الشعبى
متابعة أحداث الانتفاضة على صفحات «الأخبار»
اختلفت الجرائد والمجلات بشأن توصيف فئات المتظاهرين الذين خرجوا للشوارع يومى 18 و19 يناير، ووصفتهم جريدتا الأخبار والجمهورية بأنهم «حرامية» وأن الأحداث عبارة عن مؤامرة دبرتها تنظيمات شيوعية ويسارية، فى حين رأت مجلة «روز اليوسف» أن من خرج فى صباح 17 يناير عمال وطلبة رافعين صور «عبدالناصر» وقاموا بالهتاف فقط، واتهام اليساريين بالتخريب هو تسطيح للأمور وبُعد عن الحقيقة.
بداية من جريدة «الأخبار»، التى كان يترأس تحريرها فى ذلك الوقت «موسى صبرى»، وكان أحمد زين، مدير تحريرها، كانت الاستعدادات لتطبيق الإجراءات الاقتصادية من جانب «السادات» وكبار المسئولين بالدولة واضحة، وكان واضحاً للجميع أن هناك قراراً سيتم تنفيذه خلال أيام، حيث عقد «السادات» العديد من الاجتماعات مع كبار المسئولين بالدولة لمناقشة تعديلات مهمة فى الخطة والميزانية، وهذا ما ظهر فى عدد الأحد 9 يناير 1977، حيث نشرت الجريدة فى صفحتها الأولى خبراً عن اجتماع للسادات يحضره «مبارك وممدوح سالم والقيسونى»، تحت عنوان «بحث خطوات تصحيح اقتصاد مصر»، وتم فى الاجتماع عرض شامل للموقف الاقتصادى والمالى، وأيضاً ظهر ذلك فى عدد 11 يناير حيث كان المانشيت الرئيسى «مجلس الوزراء يبحث الميزانية والأسعار». وكان هناك تصريح مهم فى عدد الاثنين 10 يناير من جانب زكريا توفيق، وزير التجارة والتموين، بأنه لن يمس سعر وحجم الرغيف والإبقاء عليه بسعر «5 مليمات» بنفس الحجم «135 جراماً».
مصطفى أمين: من حق الشعب أن يعلن عن رأيه.. لكن ليس من حق أحد أن يحرق أوتوبيساً أو يغلق المصانع ويُوقف العمل فى المؤسسات
ونظراً لعلاقة موسى صبرى بالرئيس الراحل أنور السادات المعروفة للجميع، كان مقاله فى الأخبار يوم الأحد 16 يناير قبل الإعلان عن تطبيق الإجراءات الاقتصادية بيومين خير دليل على مدى علاقته بالرئاسة، حيث كان مقاله أفضل تمهيد للقرارات الحكومية موضحاً جوانب الأزمة التى تعيشها مصر، وكان المقال بعنوان «تثبيت أسعار كل السلع.. مستحيل»، ومضمونه أنه لا يمكن لأى حكومة فى العالم تثبيت كل السلع، مشيراً إلى أن تثبيتها «خرافة»، وأن الدعم الذى وصل للكثير من السلع مع زيادة الأسعار العالمية خلق عجزاً خطيراً فى الميزانية، قائلاً: «لا بد من المواجهة الجادة ولا بد أن نتحمل.. ولا سبيل إلا تقليل الاستهلاك.. وغير ذلك عجز وإفلاس.. وإذا كانت بعض الأصوات الرافضة تريد أن تستثمر هذا الوضع فى الإثارة ونشر السخط.. فعليها أولاً أن تقدم البديل وأن تقدم الحلول».
«الأخبار»: مظاهرات عن الأسعار تتحول إلى مؤامرة تخريب.. و«الجمهورية»: المحتجون أحرقوا كازينوهات «الهرم» وسرقوا السجاد و«الصينى».. و«روز اليوسف»: من خرج صباح 17 يناير هم العمال والطلبة ورفعوا صور «عبدالناصر» واكتفوا بالهتاف.. واتهام اليساريين بالتخريب «تسطيح»
وتم الإعلان عن الإجراءات الاقتصادية فى عدد الثلاثاء الموافق 18 يناير، تحت مانشيت رئيسى فى الصفحة الأولى «إجراءات اقتصادية لمواجهة الأزمة»، وقامت الجريدة بتوضيح تلك الإجراءات عن طريق شرح السلع والأجهزة التى سيتم تخفيض الدعم والأسعار الجديدة لها مع توضيح أسباب المشكلة الاقتصادية، وأن الميزانية الجديدة بلغت 7050٫6 مليون جنيه. ودافع عبدالمنعم القيسونى، نائب رئيس الوزراء للشئون المالية والاقتصادية، عن هذه الإجراءات، مؤكداً أنها ضرورات حتمية ولن يكون حل المشكلة الاقتصادية فى أشهر ولكنه ليس مستحيلاً.
وفى اليوم التالى، الأربعاء 19 يناير، تحولت مانشيتات الجريدة بشكل كبير بسبب المظاهرات والأحداث التى طرأت اعتراضاً على تطبيق الإجراءات الاقتصادية، حيث رأت «الأخبار» أن المظاهرة بسبب ارتفاع الأسعار تحولت إلى مؤامرة لتخريب مصر وأن الدولة ستتصدى بكل حزم لمثل تلك الأعمال التخريبية، وكانت المانشيتات الرئيسية هى «مظاهرات عن الأسعار.. تتحول إلى مؤامرة تخريب» و«عناصر تخريب وجهت المظاهرات إلى حرق سيارات خاصة ووسائل نقل فى الإسكندرية والقاهرة»، و«بدأت المظاهرات فى الإسكندرية والقاهرة فى مواقع محدودة بتحريض من عناصر ماركسية».
ورأت الجريدة أن عناصر ماركسية منظمة مع عناصر تدّعى شعار الناصرية بدأت بقيادة هذه المظاهرات فى الإسكندرية والقاهرة، بهتافات واحدة سبق أن ترددت فى مظاهرات سابقة، على حد وصفها، وكان بعضهم يحمل صورة «عبدالناصر»، وبدأت الاعتداءات على المرافق العامة وإشعال الحرائق وتحطيم وسائل النقل وكادت القاهرة أن تتعرض لمأساة مثل مأساة حريق القاهرة فى يناير 1952.
وفى عدد 20 يناير كان من الطبيعى أن يرى موسى صبرى فى مقاله أن تلك الأحداث بالكامل هى مؤامرة تم تدبيرها تجاه مصر والديمقراطية، ووصف الأحداث بأنها مؤامرة واضحة لا يمكن تدبيرها أو تخطيطها سوى من أعداء الشعب وأعداء الاستقرار، موضحاً أنه لا يمكن للقرارات الاقتصادية التى تفرض إجراءات قاسية لإنقاذ البلاد من هاوية الإفلاس أن تسعد مواطناً زادت أعباؤه.
وفى عمود «فكرة» رأى مصطفى أمين أنه من حق الشعب أن يعلن عن رأيه، ولكن ليس من حق أحد أن يحرق أوتوبيساً أو يغلق المصانع ويُوقف العمل فى المؤسسات، وحاول «أمين» أن يربط بين تلك الأحداث وأحداث عام 1952 وأن بين الحادثين 25 عاماً بالتمام، وأن كليهما حدثت به خسائر كبيرة، وتساءل هل هى محاولة أخرى للتخريب؟!
وفى يوم الجمعة 21 يناير أعلنت جريدة الأخبار عن إلغاء تلك الإجراءات الاقتصادية وكان مانشيتها الرئيسى «إلغاء قرارات رفع الأسعار»، وحرصت الجريدة على تكريس فكرة التخريب وأن الأحداث تم تدبيرها على يد أعداء الوطن، وتجلى ذلك من خلال خبر صغير بعنوان «إسرائيل سعيدة بالتخريب فى مصر»، ومن خلال أيضاً مانشيت رئيسى «طوائف الشعب تستنكر حوادث التخريب وتدين المخربين»، وحاولت الجريدة طمأنة الشعب على أن زيادة المعاشات باقية كما هى ولن تتأثر بإلغاء القرارات الاقتصادية كمحاولة من الجريدة لتهدئة الشارع المصرى.
وفى يوم 23 يناير أعلنت «الأخبار» إلغاء حظر التجوال واستمرار التحقيقات فى قضية التخريب واجتماع الرئيس بالقيادات السياسية والتنفيذية لبحث القضية، وفى مقال «موسى صبرى»، الذى كان بعنوان «ماذا تريد موسكو»، أكد أن موسكو هللت لحوادث التخريب التى وقعت فى مصر وصفقت لها وحرضت على المزيد من الخراب، وأن صحف وإذاعات موسكو لم تكتف بالتهليل فقط ولكنها نفت أن الشيوعيين المصريين لهم دخل فى هذه الحوادث، وأن الاتحاد السوفيتى أعلن نفسه وصياً على الشيوعيين المصريين ويعتبرون أى اتهام يوجه لهم هو اتهام موجه إلى الاتحاد السوفيتى. وعادت جريدة «الأخبار» مرة أخرى إلى نبرة التهدئة فى اليوم التالى بمانشيت رئيسى «السادات: لا مساس بغذاء الشعب وكسائه».
ونشرت «الأخبار» بياناً مهماً من النائب العام عن نتائج المرحلة الأولى من تحقيقات النيابة فى الأحداث الأخيرة بتاريخ 26 يناير تحت مانشيت فى الصفحة الأولى «4 تنظيمات شيوعية سرية»، وأكدت الجريدة فى عدد 28 يناير أن عضواً بالتنظيم الشيوعى يعترف بإعداد مخطط لاستغلال القرارات الاقتصادية والقيام بإجراءات مضادة للدولة.
لم تختلف جريدة «الجمهورية» كثيراً مع سابقتها، فكان يترأس تحريرها محسن محمد، وكان عبدالمنعم الصاوى، رئيس مجلس الإدارة، وكان توجه الجريدة إلى أن الشيوعيين وحزب اليسار هم وراء عمليات التخريب، وأن هناك اجتماعات للحزب فى المنيا وأسيوط لتنظيم المظاهرات.
وفى العدد الأسبوعى للجمهورية، 20 يناير، كان المانشيت الرئيسى «وقف العمل بزيادة الأسعار.. والعلاوة الإضافية مستمرة»، وأكد «محسن محمد»، من خلال مقاله، أن الهدف من تلك الأحداث هو مصر وليس مجرد استنكار القرارات، وأن هدف البعض أن تحيا مصر فى ظل ظروف استثنائية ويتعطل مؤتمر جنيف، والدليل على ذلك أن تلك الأحداث لم تتوقف بعدما أعلنت الحكومة وقف القرار.
وخلال صفحات «الجمهورية» وصفت الجريدة المتظاهرين بأنهم «حرامية» من خلال تحقيق بعنوان «احتراق جميع ملاهى شارع الهرم.. المتظاهرون استولوا على أجهزة التليفزيون والخزائن»، وأكدوا أن المتظاهرين أحرقوا كل ملاهى وكازينوهات شارع الهرم فى خلال ساعات، ولم يتركوا أى محل فى الشارع دون اقتحامه، ونهبوا كل محتوياته من سجاد فاخر وأطقم الصينى والكراسى والآلات الموسيقية، وأشعلوا النار فى مخازن الويسكى والبيرة والمشروبات الغذائية.
وفى عدد الجمعة 21 يناير كان المانشيت الرئيسى «هدأت الحالة تماماً.. الحزب الشيوعى العمالى وراء عملية التخريب» حيث تم القبض على قيادات الحزب وضبط مخازن المنشورات ومطابع سرية وأن خطة الحزب كانت حرق القاهرة. وفى مقال بعنوان «وهى تبتسم» لـ«محسن محمد»، هاجم فيه نواب القاهرة الذين اكتفوا بالصياح ضد قرارات الحكومة داخل المجلس، وتحدث عن ما سماه «البطولة.. فى شارع الهرم» حيث حاول الدفاع عن محلات شارع الهرم وأصحابها مثل شريفة فاضل، صاحبة «كازينو الليل»، التى استشهد ولدها الطيار، وزوجها ضابط طيار سابق اشترك فى حرب أكتوبر.
وأخيراً كان لعبدالمنعم الصاوى مقال بعدد الجمعة 24 يناير، ورأى أن هناك فرقاً كبيراً بين النزول على إرادة الجماهير والرضوخ للإرهاب المغرض الذى لا يستهدف إلا إشاعة القلق، وأن هؤلاء الإرهابيين وثبوا على موجة التعبير الشعبى، وأن الرجوع فى القرارات كان لضرورة ديمقراطية وليس رضوخاً للإرهاب.
فى المقابل، خرجت مجلة «روز اليوسف» فى عددها الأسبوعى بتاريخ 24 يناير بعنوان رئيسى للعدد «أسبوع الحرائق»، وكان رئيس مجلس إدارتها فى تلك الفترة «عبدالرحمن الشرقاوى»، وبدأ العدد الأسبوعى بمقال له بعنوان «الوحدة فى مواجهة المخربين»، وأشاد «الشرقاوى» خلال مقاله بتدخل «السادات» ومبادرته بإلغاء القرارات الاقتصادية، وأدان «الشرقاوى» كل من تسبب فى تفجير غضب الشعب وخلق جواً يمكن أن تنتشر فيه المؤامرة، مضيفاً: «إلقاء تبعات التخريب على تنظيم سرى يسمى نفسه حزب العمال الشيوعى ثم تعميم المسئولية وإلقاء التبعية على كل الماركسيين والشيوعيين إنما هو تسطيح للأمور لا يفيد بل يضلل الباحثين عن الحقيقة».
ودافع «الشرقاوى» خلال مقاله عن اليسار والشيوعيين، مؤكداً أن اليسار بكل فئاته بما فيه الشيوعيون والماركسيون لا يملكون وسيلة للنقد أو المعارضة إلا التعبير بالكلمة فقط، ووصفهم بأنهم عناصر بناء وليس هدماً، وأنهم حلفاء النظام الوطنى الذى يقوده «السادات» ويستخدمون الديمقراطية فى انتقاد الحكومة أو معارضتها، وطالب «الشرقاوى» بعدم عزل النظام الوطنى عن خيرة حلفائه وقوته الضاربة.